الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
واجب المسلمين اليوم.. والآن، أليس من واجب المسلمين، وهم على حالهم التي نراها، أن ينتبهوا إلى الفيلم، ويستخدموه كسلاح حاد من أجل إسلامهم المجاهد؟ إن أوروبا النصرانية تدافع عن صليبها بكل الطرق، ومن أخطر أسلحتها الفيلم السينمائي.. ولعلنا نذكر أفلامها الدينية مثل (الرداء ) ،و (الوصايا العشر ) ، و (بن هـور ) ، وتجنيدها لعباقرة فن السينما في إخراج أفلام عن المسيح عليه السلام ، ومعاناة النصارى في نشر دعوتهم، وإلقائهم في حلبات المصارعة ضد الأسود التي تقطعهم إربا إربا، وتصويرنا -نحن العرب والمسلمين- في كثير من الأفلام على أننا أمة متخلفة متوحشة لا يحق لها الحياة.. فماذا فعلنا نحن في الفيلم الإسلامي ؟!! بادئ ذي بدء ينبغي أن نثبت هـنا أن الفيلم الإسلامي ليس هـو الفيلم الذي تكون مادته الروائية مستوحاة -فقط- من التاريخ الإسلامي، وإنما هـو أشمل من ذلك، وتجربتنا مع الأفلام التاريخية الإسلامية فيها الكثير من القصور وسوء الفهم لديننا الذي أنشأ حضارة لا تزال تشع بنورها على العالمين لما قدمته للإنسانية من إنجازات حضارية شملت مناحي الحياة، وباستثناء عدد من [ ص: 121 ] الأفلام لا يتجاوز أصابع اليد الواحد، لا تزال النظرة إلى الأفلام الإسلامية التي تأخذ مادتها من التاريخ الإسلامي ، أسيرة الخوف من إظهار المشاعر الإنسانية الحقيقية للعربي الذي آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبسبب هـذا الخوف يظهر المسلمون الأوائل متجهمين مأخوذين بإيمانهم الجديد، وانضوائهم تحت رايات الإسلام.. وعلى مدى تاريخ السينما الدينية لم نشهد فيلما يقدم لنا المجتمع العربي في الجاهلية، والمقدمات أو البشارات والعلاقات التي آذنت ببعث محمد صلى الله عليه وسلم .. ولعل الكثيرين منا يذكر كيف قدمت هـوليود التي يسيطر الصهيونيون عليها، فيلم (شمشون ودليلة ) ، وكيف صور شمشون بطلا قوميا مكافحا ضد مضطهدي اليهود ، وكيف حطم المعبد على من فيه من الوثنيين، ثم بعدها قدمت (الوصايا العشر ) ، و (سالومي ) ، و (حياة المسيح ) ، و ( بن هـور ) ، و ( الرداء ) .. وفي كل هـذه الأفلام جندت هـوليود أعظم مخرجيها وممثليها وفنييها من أجل تقديم عظمة التاريخ والكفاح النصراني ومقدمته اليهودية ، وليس هـذا بمستغرب؛ وقع في يدي كتاب صغير بعنوان: ( العالم قبل بريطانيا ) وفيه فصل كامل عن اليهود بعنوان: ( بكم نحن مدينون لليهود ) ، وفي هـذا الفصل يتحدث الكتاب عن اليهود الذين أعطوا العالم التدين وفكرة الإله الواحد، فلا غرو أن يشب الفتى والفتاة في الغرب النصراني وهو متعاطف مع هـؤلاء اليهود وإن استبدت بهم الصهيونية العنصرية وجندتهم من أجل تنفيذ أهدافها الدموية الشريرة!!. وهم -صانعوا السينما في الغرب- في أفلامهم التي ذكرناها، يقدمون حياة طبيعية للبشر في ذلك التاريخ، وهذا لا يتم إلا بعد استشارة أساتذة متخصصين في الأزياء والأدوات والجغرافيا والاجتماع وغيرهم حتى يتحقق الاقتناع الكامل لذلك الذي يجلس أمام الشاشة البيضاء مسلوب الإرادة، منبهرا بما تسوقه إليه خيالات ذلك الشريط الأعجوبة المدعم بالصوت والألوان والمؤثرات كافة، التي تكفل للفيلم تحقيق أهدافه؛ فالبشر يظهرون مرحين طيبين وأشرارا، وفيهم العامل والزارع والتاجر والمثقف والجندي، ثم بعد ذلك يظهر المخلص وهو بطل الفيلم سواء أكان نبيا أم قديسا أم بطلا حربيا، [ ص: 122 ] ويتفاعل الطيبون والأشرار معه حتى تنتهي أحداث الفيلم وأنت مقتنع تماما بأن ما تراه حدث بتمامه في ذاك التاريخ وأن هـؤلاء النصارى ، دينهم -كما يعرفونه الآن- حق.. أما أفلامنا وتمثيلياتنا التليفزيونية فتقدم المسلمين الأوائل وكأن الإسلام قد منعهم تماما عن ممارسة الحياة، وأصبحوا جميعا: إما مؤمن لا هـم له سوى المنافحة عن الإسلام ونشره، وإما شرير مناوئ يحاربه، وتضيع الحياة بين المؤمن والكافر .. فأين هـو مجتمع مكة ذو الطبقات الحادة التقسيم ؟ وأين هـو مجتمع المدينة الذي أسسه محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد هـجرته؟ وكيف كان يعيش هـؤلاء وأولئك ؟ وكيف كانوا يحصلون على أقواتهم ؟!. وإذا فرضنا أن أحدهم كان حدادا مثل صهيب الرومي رضي الله عنه ، فكل ما يفعله الفيلم أن يصوره ممسكا بقادوم أو ما إلى ذلك !! وإذا كان تاجرا كمعظم سراة مكة، وضع أمامه بضعة أجولة مخططة وسقف عليه قماشه مثبتة فوق بعض العصي. وإذا ما تحدثت الشخصيات، فلا بد أن تكون جهيرة الصوت متخذة الخطابة وسيلة للحوار، لكأنه كتب على المتحدثين بالعربية الفصحى في السينما أن يخطبوا كأنهم في مؤتمرات أو قاعات للدروس، رغم أن لغتنا الجميلة سهلة ومنطقية، ويمكن الهمس بها أيضا.. أضف إلى ذلك أن الشخصيات تقـدم: (الطيب طيب.. والشرير شرير ) وليس بينهما من يملك بين جوانحه قدرا من هـذا وقدرا من ذاك.. والجدية الإيمانية، لا يسمح مقدم الفيلم العربي بتجاوزها مهما كان الأمر، رغم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان أحيانا يمزح ولا يقول إلا حقا، ( ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لامرأة عجوز بأن الجنة لا يدخلها عجوز، فلما حزنت، طمأنها بأنها ستعود إلى مرحلة الشباب يوم القيامة.. ) فما بالكم بالمسلمين الآخرين.. هـل كانت حياتهم - منذ استبد حب الإسلام ونبيه بقلوبهم وعقولهم- جافة لا هـم لهم سوى إشراع الرماح والسيوف في وجه الكفار والمرتدين ومانعي الزكاة والمناوئين من الأمصار؟ التاريخ الإسلامي يدحض هـذا المنحى في التفكير والرؤية ويقدم لنا الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته وتابعيهم والمسلمين كبشر يفكرون [ ص: 123 ] ويعيشون الحياة بكل جزئياتها وعمومياتها! وأعداء الإسلام يعرفون جيدا أن أرقى فكرة -بل الأولى والنهائية- لعبادة الله سبحانه وتعالى هـي التي أرسل بها نبيه العربي محمدا صلى الله عليه وسلم ، ويؤمنون تماما بمدى خطورة الاقتناع بـ: ( قل هـو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) ( سورة الإخلاص ) .. إذ أن معنى أن الله سبحانه وتعالى واحد منزه عن الميلاد والولادة وليس له نظير، أن فكرة التثليث الوثنية ستنهار، ومن ثم ينهار صرح النصرانية المحدثة تماما، حيث يقرنون النصرانية بالحضارة الغربية، وأن انهيارها سيهدد الحضارة كلها ويفتح الباب على مصراعيه للمسلمين ودينهم الذي سبق أن اقتحم عليهم جنوبي فرنسا ، وشرقي القارة، واستقراره ردحا طويلا من الزمان في الأندلس !.

التالي السابق


الخدمات العلمية