بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى .
اعلم أن فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص ومكدر ومن غير رقيب ومزاحم ومن غير خوف انقطاع إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا ، وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن ؛ لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة وأما قوة الحب واستيلاؤه حتى ينتهي إلى الاستهتار الذي يسمى عشقا ، فذلك ينفك عنه الأكثرون وإنما يحصل ذلك بسبين أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب ؛ فإن القلب مثل الإناء لا يتسع للخل مثلا ما لم يخرج منه الماء ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وكمال الحب في أن يحب الله : عز وجل : بكل قلبه . أسعد الخلق حالا في الآخرة أقواهم حبا لله تعالى ،
وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره ، فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله ، وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه .
وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى : قل الله ثم ذرهم في خوضهم وبقوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، بل هو أي ، لا معبود ولا محبوب سواه فكل محبوب فإنه معبود ؛ فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به . معنى قولك : لا إله إلا الله
وكل محب فهو مقيد بما يحبه ؛ ولذلك قال الله تعالى : أرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال : صلى الله عليه وسلم : أبغض إله عبد في الأرض الهوى ولذلك قال عليه السلام : ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله ، فلا يبقى فيه شرك لغير الله ، فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط ومن هذا حاله فالدنيا سجنه ، لأنها مانعة له من مشاهدة محبوبه ، وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب فما حال من ليس له إلا محبوب واحد ، وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه فخلي ، من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد ؛ فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا ، ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنتزهات ، حتى إن المنفرح بطيب أصوات الطيور وروح نسيم الأسحار ملتفت إلى نعيم الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله تعالى بسببه فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئا إلا وينقص بقدره من الآخرة بالضرورة كما أنه لا يقرب الإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة من المغرب بقدره ولا ، يطيب قلب امرأته إلا ويضيق به قلب ضرتها ؛ فالدنيا والآخرة ضرتان وهما كالمشرق والمغرب وقد انكشف ذلك لذوي القلوب انكشافا أوضح من الإبصار بالعين ، من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ، بزمام الخوف والرجاء ، فما ذكرناها من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة ، وهو تخلية القلب عن غير الله ، وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار ، ثم يتشعب منه الخوف والرجاء ، ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما ، ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا وفي المال والجاه وكل حظوظ الدنيا ، حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه ؛ فكل ذلك مقدمات تطهير القلب ، وهو أحد ركني المحبة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد وملازمة الصبر والانقياد إليهما كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة . الطهور شطر الإيمان