مسألة
ويقرأوا القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبل منهم، ويوصل أجور ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أزواجه وأولاده، فسئل عن ذلك، فقال: لأنه كان يحب الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: فيمن يحض الناس من أهل الإيمان على أن يصوموا ويصلوا ويتصدقوا، رضي الله عنه كان يضحي عنه بعد موته، عليا إن الإمام قال: إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت"، قال: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: يا رسول الله! فأجعل لك كلها، قال: "إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك". أبي بن كعب وإن
فما هذه الصلاة المقسمة بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاة عليه فكلها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرف المفهوم أنها صلاة نوافله وتطوعاته، وأن يجعل له ربعها ونصفها وثلثيها وكلها، فهل أصاب فيما أمر به وحض عليه؟
وبنى على ما رواه الدارقطني: أن رجلا سأله فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، كان لي أبوان، وكنت أبرهما حال حياتهما، [ ص: 244 ] فكيف لي بالبر بعد موتهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق لهما مع صدقتك".
فقيل: لوجوب حقهما. إن عمل الولد من الخير ملحق بالوالدين،
فقال: حق النبي صلى الله عليه وسلم أوجب، وحق أزواجه أمهات المؤمنين أوجب من أمهات الأولاد.
فقيل له: فهلا فعل ذلك؟ أبو بكر
قال: وما يدريك؟ قد فعله رضي الله عنه حين ضحى عنه. علي
فقيل: إن النبي دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من تبعه.
فقال: إن الواحدية حق لله في الأزل والأبد لا يزيلها إنكار منكر لها، ويثاب المقر بها طوعا راضيا مختارا، والكون وما فيه ملكه ثانيا لا يزيله ملك مالك، ونحن نتقرب منه بشق تمرة.
فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟
أفتونا مأجورين.
أجاب رضي الله عنه
أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه من فقد ذهب إليه طائفة من المتأخرين من الفقهاء والعباد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريق التي ذكرت عنه، ولكن بنوا ذلك على [ ص: 245 ] إن إهداء ثواب القربات إلى النبي صلى الله عليه وسلم جائز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل المؤمنين، ولا ريب أن إهداء ثواب القرب إلى موتى المؤمنين جائزة باتفاق العلماء، وكذلك سائر العبادات المالية، وإن تنازع الأئمة في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سوى بين النوعين الصدقة عن الميت وهو المذكور في كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة من أصحاب كأحمد، مالك ولكن أكثر أصحاب والشافعي، مالك فرقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها النيابة والتوكيل، فيجوز والشافعي للرجل أن يستنيب في صدقته، ولا يجوز له أن يستنيب في صلاته وصيامه.
والأولون أجابوا عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يعجز عما وجب من الصلاة، فلا عذر له في، والصوم له بدل وهو الإطعام، كما قال تعالى: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له ، فلما نسخ ذلك وتعين الصيام على القادر بقي العاجز باتفاق العلماء، وأكثرهم [ ص: 246 ] يوجبون عليه الفدية، وهو مذهب كالشيخ الذي لا يرجى قدرته والمريض المأيوس من برئه، فإنه يفطر الشافعي وأحمد أما مالك فلا يوجب عليه فدية. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يصام عنه بحال، كقول وأبي حنيفة، أبي حنيفة ومالك في الجديد، لكن والشافعي وطائفة يقولون: يطعم عنه إذ الإطعام هو البدل، وقيل: بل يصام عنه الفرض والنذر، وهو قول الشافعي وقيل: يصام عنه النذر، وأما الفرض يطعم عنه، وهو مذهب للشافعي، وغيره اتباعا أحمد في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لابن عباس وروته "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، أيضا، وكلا الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث عائشة مفسرا في النذر كما في الصحيحين عنه: ابن عباس "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ "، قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك".
وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلا، وهو الإطعام من مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين أطعم ستين مسكينا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على عباده ما يعجزون [ ص: 247 ] عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجو إلى ما بعد رمضان ولم يتمكن من القضاء فلا إطعام عنه ولا قضاء باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على نفسه فإنه قد يوجب ما يعجز عنه، كما يستدين ما لا يطيق وفاءه، فيكون فعل الغير عنه كقضاء الدين عنه، وذلك جائز.
وحقيقة هذا القول أن من فلا شيء عليه، فلا يحتاج أن يصوم عنه، ومن قدر على أحدهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن الشارع سوغ الصوم عن الميت كما سوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أن يقال: لا تدخله النيابة بحال. عجز عن الصيام والفدية
والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابة عنه، وإنما العامل عمل لنفسه لا عن الميت، والإنسان ليس له إلا ما سعى، فهذا السعي للحي لا للميت، لكن الميت استحق عليه أجرا من الله، فتبرع به للميت كما يتبرع الأجير بأجرته لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسه لا للغير، ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويعطي الأجرة لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزم العمل في ذمته، إذا أعطاه لبعض الناس ليعمل عنه كان ذلك عملا بطريق النيابة عمن وجب عليه العمل، وهو نظير قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاص أو المشترك الذي عمل ما عليه، وأخذ أجرته فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب لا يجوزون النيابة في العبادات البدنية، ويجوزون إهداء ثوابها، وكذلك أصحاب أبي حنيفة يجوزون إهداء [ ص: 248 ] ثواب العبادة حيث لا يجوزون النيابة، حتى يجوزون إهداءها إلى الحي في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان. أحمد،
وبعض الناس يحتج على أن لا يصل إلى الميت بقوله: إهداء ثواب القرب وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . واحتجاجه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دل على الاستغفار للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سعيهم، قال الله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم الآية، وقال تعالى: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، وقال تعالى عن نوح: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ، وقال عن إبراهيم: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .