الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى [ ص: 366 ] رجل، فدفعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نص عليه في رواية ابن منصور في المسألة التي قبلها.

قلت: نص أحمد أن يصدق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضا.

قال: وقال أيضا في رجل أمر رجلا أن يدفع إلى رجل ألف درهم، فدفعها، وأنكر المدفوع له أنه قبضها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي: لا يقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يقبل قوله إلا ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا.

إلى أن قال: واحتج المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يمكن المالك أن يقيم عليه بينة، ولا يقبل الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه.

قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعد، لا أنه غير مقبول القول كما تقدم، وهذا خلاف ما صدر به المسألة. [ ص: 367 ]

ثم قال: احتج بأنه ادعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو ادعى تسليمها إلى أجنبي. والواجب أن الأجنبي لو صدقه صاحب الوديعة أنه سلم إليه ضمن كذلك إذا لم يصدقه.

وفي مسألتنا لو صدقه أنه سلم إليه لم يضمن إذا ادعى التسليم، وله فيه حق. وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطا بترك الإشهاد عندنا في الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يترك في الظاهر بخلاف المشهود به.

قلت: فهذا كما في "المحرر"، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر أبو محمد في "المغني" مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن يقال: إذا وكله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير تفريط.

أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاء الضمان دون الإذن، لا سيما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن غيره واجبا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع وإيجابه، فالمتصرف عن غيره بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر [ ص: 368 ] عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرف بحكم المصلحة كالولي. وأيضا من يريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء. وبهذا يظهر الوجه المذكور فيما إذا كان الوفاء بحضرته في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن الموكل، فسكوته رضى بذلك، والضامن يوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين.

التالي السابق


الخدمات العلمية