الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

وقد قال سبحانه وتعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، [ ص: 282 ] وقال: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ، قال لقمان: ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ، وقال: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .

فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم بالصدقة، وأخبر أن ذلك نصر له، وإقراض منه، فقال تعالى: إن تنصروا الله ينصركم ، وقال تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ، وهم إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض .

وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا شريك له، وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك وييسره بحكم ربوبيته، فله الحمد في الأولى [ ص: 283 ] والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا التوحيد أسرار علوية مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع.

فمن سوى بين ... كان من جنس الذين قال فيهم لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في الابتلاء كان الابتلاء رحمة في [ ص: 284 ] حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديث الذي في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن بقضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له". فالمؤمن الذي من الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرا له، بخلاف من لم يشكر ولم يصبر.

الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم مصلحتهما في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء هم أهل النعمة المطلقة المذكورين في قوله: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ، كما قال تعالى: [ ص: 285 ] ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

الوجه الثالث: أن الله سبحانه من عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابا غير ما يستحقه من النفقة عليه.

فهذا القائل الذي قال: "الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة"، وقاس على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون له مثل أجرنا ويهدي إليه من ذلك ما يهديه، غالط غلطا عظيما. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يفطن لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب المهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله، فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة وغيرها، وأين هذا من هذا؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه، والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعين بالله لا يستعين بغيره، كما قال تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين ، فإن لم يعبده بل عبد غيره أو أعرض عن العبادة خسر الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان مخذولا لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، [ ص: 286 ] ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه.

ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرها في الكتب الأربعة، وجعل سر الأربعة في القرآن، وسر القرآن في المفصل، وسر المفصل في الفاتحة، وسر الفاتحة في إياك نعبد وإياك نستعين . وهذه هي التي نصفها للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حق لله، كما قال في الصحيحين : إنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم".

التالي السابق


الخدمات العلمية