الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إذا تبين هذا الأصل فقول السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلما كثيرا"، والدعاء بين يدي الله لا يحتمل المجاز، والصديق من أئمة السابقين، والرسول أمره بذلك" يتضمن شبهة في هذا الدعاء، ومثار الشبهة أن يقال: الصديق أجل قدرا من أن تكون له ذنوب تكون ظلما كثيرا، فإن ذلك ينافي مرتبة الصديقية.

وهذه الشبهة تزول بوجهين:

أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كملت مرتبته وانتهت درجته، وتم علو منزلته في نهايته لا في بدايته، وإنما قال ذلك بفعل ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، وأفضل أعماله بل [ ص: 54 ] أفضلها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صديق إلا ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين الأولين، وما وجد قبل التوبة فإنه لم ينقص صاحبه إذا تعقبته التوبة، ولم يغض من منزلته، ولا يتصور أن بشرا يستغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".

وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالتوبة عموما، وأخبر أنه يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، بل قوله الذي في الحديث المتفق عليه : "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي [ ص: 55 ] لا إله إلا أنت". فهذا الدعاء فيه من الاعتراف أعظم مما في الدعاء الذي أمر به الصديق.

والصديقون يجوز عليهم جميع الذنوب باتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرا ثم يتوب من الكفر ويصير صديقا، وقد يكون فاسقا أو عاصيا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صديقا. وإنما تنازع الناس في الأنبياء، وإن كان القول بعصمة الأئمة قد يقوله بعض من يقوله من الرافضة، حتى الإسماعيلية يقولون: إن بني عبيد الله بن ميمون القداح كانوا معصومين لا يجوز عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاء زنادقة مرتدون ليسوا من أهل القبلة الذين ينصب معهم الخلاف. والرافضة الذين يعتقدون العصمة في الاثني عشر أجهل الخلق وأضلهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويشبههم من يعتقد في شيخه أو متبوعه العصمة، لكرامة رآها منه، أو لحسن ظن به، فهؤلاء كلهم من الجهال الذين ليس لقولهم أصل يبنى عليه.

ومع هذا فتقدير أن يكون أحد هؤلاء معصوما أو محفوظا إنما ذاك عندهم بعد أن يبلغ منزلة الولاية أو الصديقية، وأما قبل ذلك فليس بمعصوم باتفاق الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخ الدين أن الولي والصديق لا يجب أن يكون معصوما، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصديق الأكبر خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناس: "أيها الناس! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني فيما أطعت الله، [ ص: 56 ] فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم" .

وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قص رؤيا رآها، فقال أبو بكر: دعني يا رسول الله أعبرها، فلما عبرها قال: أصبت يا رسول الله أم أخطأت؟ فقال: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا".

وقال الصديق في الكلالة : "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان".

وأفضل هذه الأمة بعد أبي بكر عمر، وكان محدثا ملهما، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ". وفي حديث آخر: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه" .

فعمر رضي الله عنه أفضل المخاطبين المحدثين من هذه الأمة، والصديق أفضل منه، فإن الصديق يتلقى عن الرسول لا عن قلبه، [ ص: 57 ] ولهذا سمي صديقا، وما جاء به الرسول فهو معصوم أن يستقر فيه خطأ، فما يأخذه الصديق فهو صدق كله وحق كله، وأما المحدث الذي يأخذ عن قلبه، فقلبه قد يصيب وقد يخطئ، فيجب على كل محدث ومكاشف أن يعرض ما وقع عليه على الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك وإلا رده، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب والسنة. وقال: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمله حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع بالأثر كان نورا على نور.

وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.

وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

وقال أبو عمرو بن نجيد أو غيره: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله يقول: وإن تطيعوه تهتدوا .

ومثل هذا كثير في كلام المشايخ، فما يلقى لأهل المكاشفات والمخاطبات من المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكل ذلك فيه حق وفيه باطل، وليس أحد منهم معصوما، وكل منهم عليه أن يزن ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، [ ص: 58 ] فما خالف ذلك فهو باطل.

التالي السابق


الخدمات العلمية