الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذي من أصناف الرحمة فلا ريب أن الرحمة أصناف متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له [ ص: 63 ] رحمة عمت الخلق مؤمنهم وكافرهم، ورحمة خصت المؤمنين، ثم رحمة خصت خواص المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديث ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه "فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: وهب لنا من لدنك رحمة ، وهو قد جعل هذه المغفرة المسئولة من عنده مغفرة مخصوصة ليست مما تبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تبذل للعامة.

وهذا الكلام في بعضه نظر، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف، وتكلمه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يبديه عليها من المناسبات والاعتبار هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في فنون العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرا ما يوجد في هذه الكتب من الآثار الضعيفة بل المضلة ما لا يجوز الالتفات إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبا متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائد ومقاصد مستحسنة مقبولة، وفيها أيضا أقوال لا دليل عليها، وأقوال مردودة يعلم فسادها، وآثار ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها. [ ص: 64 ]

ومن أضعف ما ذكره ما تكلم عليه في كتاب "ختم الولاية" ، فإنه تكلم على حال من زعم أنه خاتم الأولياء بكلام مردود ومخالف لإجماع الأئمة، ويناقض في ذلك. وهذا كان سبب من تكلم في ختم الأولياء وادعى ذلك لنفسه، كابن العربي وابن حمويه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارا من الخطأ، فزادوا على ذلك زيادات كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكل متكلم في الوجود يوزن كلامه بالكتاب والسنة.

وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر:

أحدهما: فإن قوله "مغفرة من عندك"، وقوله: وهب لنا من لدنك رحمة ونحو ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاص هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ولو كان كذلك لما كان يسوغ لغيره أن يدعو بهذا الدعاء، وهذا خلاف الإجماع.

وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك يمكن أن يقال في كل مطلوب بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء.

وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد ينال بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضا قد ينال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تنال إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما [ ص: 65 ] يطلب من الله قد ينال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سبب لنيل المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سبب غير الدعاء في غير هذا الموضع فكذلك في هذا الموضع.

وأيضا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصه بالطلب ولا بالمطلوب، وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يفسرون الألفاظ لما أرادوا، وأكثر أهل الإشارات الذين يقعون في أشياء مثل قطعة كثيرة من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي، والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار. وهي كشبه غير المنطق بالمنطق لكونه في معناه أو أولى بالحكم منه، كما يفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: لا يمسه إلا المطهرون إذا كان المصحف الذي كتب فيه طاهرا لا يمسه إلا البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطن القرآن لا يمسها إلا القلوب المطهرة، وأما القلوب المنجسة لا تمس حقائقه، فهذا معنى صحيح، قال تعالى: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق . قال بعض السلف: أمنع قلوبهم فهم القرآن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى فيه: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ ص: 66 ] .

فالذنوب ترين على القلوب حتى تمنعها فهم القرآن، وإذا كان هذا المعنى صحيحا فقياس طهارة القلب على طهارة البدن فيما يشترط له الطهارة من مس القرآن إشارة حسنة، فأما أن يفسر المراد للفظ بغير المراد وبما لا يدل عليه اللفظ فهذا خطأ.

وقد قال زكريا: هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ، ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يخرج الأنبياء من أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك" و"من لدنك"، كان مطلوبا فعل العبد، فإن ما يعطيه الله للعبد على وجهين:

منه ما يكون بسبب فعله، كالرزق الذي يرزقه بكسبه، والسيئات التي تغفر له بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها.

ومنه ما يعطيه للعبد ولا يحوجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، كما أعطى زكريا الولد مع أن امرأته كانت عاقرا، وكان قد بلغ من الكبر عتيا، فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يهبه [ ص: 67 ] بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي علمه الخضر من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا قال: إنك أنت الوهاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية