الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا غضاضة بالأعلى، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على النبي صلى الله عليه وسلم، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق صلى الله عليه وسلم، وما من به علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد من عليه بمثله، لدعائه [ ص: 287 ] لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما من به عليه من أجر عمله.

والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان صلى الله عليه وسلم يقول عقيب الصلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".

فعلى العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام، قال تعالى: فادعوا الله مخلصين له الدين ، الحمد لله رب العالمين فالخالق سبحانه ليس محتاجا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه، سواء كان صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيا أو غير نبي هو محتاج إلى الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب ييسرها، وإذا ساق إليه خيرا على يدي العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يدي العباد من النفع بصلاتهم عليه وسلامهم [ ص: 288 ] عليه ومسألتهم له الوسيلة ونحو ذلك هو خالقه، وهو مجازي العباد، والله غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ فمن شبه الله بخلقه فقد كفر.

ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضلال هذه الأمة الذين يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب إلى الملوك يحتاج إلى وسائل ووسائط وشفعاء من خواص الملك، فكذلك المتقرب إلى الله، على هذا بنت الصابئة والنصارى وغيرهم دينهم الفاسد، وهذا أصل عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره، وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل ليسوا أسبابا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة.

ولهذا قيل لأفضل الرسل: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ، وقال: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ، وقال تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، [ ص: 289 ] قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد الله، مطيع لربه، مبلغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". وكان ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ، قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له .

فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا [ ص: 290 ] تنفع إلا لمن أذن له، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى .

ولهذا كان سيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم إذا جاء الخلائق يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم، ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررت ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، قل تسمع، وسل تعطه، فأشفع". فبين صلى الله عليه وسلم أنه إذا أتى ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه في الشفاعة.

وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق، فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الهدية إلى الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم، [ ص: 291 ] وجعلوا الرب محتاجا إلى عباداتهم، مفتقرا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم،والمؤمنون الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصدقاتهم من الله لا من مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : "إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا".

قال تعالى: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى .

وهذه الآية نزلت في الصديق، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يراد بها قطعا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من هذه الأمة، كقوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، قالوا: ولا يجوز أن تكون نزلت في علي دونه، لأن عليا عليه السلام كان فقيرا في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم، كفله لما وقعت بمكة المجاعة، فبعث الله نبيه وعلي عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مال ينفقه عليه. [ ص: 292 ]

وأما أبو بكر فكان رجلا بالغا موسرا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا في نفقة نفسه عن أبي بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعة يعذبون في الله منهم بلال وغيره، وفعل غير ذلك.

والمقصود هنا أن الأعمال لا تعمل إلا لله، ولا يطلب أجرها إلا من الله، وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى: فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، وقال تعالى: وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ، وقال: فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلى قوله: إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم . وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". [ ص: 293 ]

وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء، يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول: وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين وقال: قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين.

وكذلك من عمل صالحا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله، فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة القبور أن نسلم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى الله، كما قال تعالى: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب . [ ص: 294 ]

ولكن كثير من أهل الضلال صار يشبه النصارى، فينزل المخلوق بعد موته بمنزلة الخالق، يطلب منه ما يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها، يطلب الثواب منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء بعد موتهم، لأنهم في حياتهم لا يمكنون أحدا من الإشراك بهم، كما قال المسيح: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ، وقال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ، فمن اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر.

ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملة الحنيفية كما نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح : "إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تجزي بالسيئة الحسنة والعفو، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله".

التالي السابق


الخدمات العلمية