ثم إن هذا الباب ألم يسمع الله يقول: كيف يجوز لمؤمن بالله ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب والسنة؟ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ، ألم يسمع الله [ ص: 397 ] يقول: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .
ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه:
الأول
قوله في صدر الكلام: فهذه الكلمة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤثر عن أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذكر في شيء من كتب الحديث. وقد اعترف بذلك "كان الله ولا شيء معه"، وغيره، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابن عربي قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه كان". " كان الله ولا شيء معه"،
وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلون هذه الكلمة أس زندقتهم، وغرضهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس معه غير ولا سوى، بل الوجود هو عينه ونفسه، فلا الأصنام والأوثان والجن والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيره، وهو الآن ليس معه غيره. [ ص: 398 ]
فإذا عرف أن هذه الكلمة لا أصل لها في الشريعة انهدمت قاعدتهم. ولفظ الحديث الذي في عن البخاري قال: عمران بن حصين بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم! "، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فجاء أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم "، فقالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء". قال: وجاء رجل فقال: أدرك ناقتك، فخرجت فإذا السراب ينقطع دونها، فوددت أني كنت تركتها ولم أقم. جاء وفد
والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوز أن نجعل مع الله إلها آخر، فقال تعالى: لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ، وقال تعالى: ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ، وقال: الذين يجعلون مع الله إلها آخر . لم يقل: لا تجعل مع الله مخلوقا ولا مصنوعا، أو لا تجعل مع الله عبدا ولا مملوكا، أو لا تجعل مع الله عبادا له مخلصين، بل صرح بأنه مع عباده عموما وخصوصا، فقال: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ، وقال [ ص: 399 ] لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى ، وقال: إنا معكم مستمعون ، وقال: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، وقال: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وقال: واصبروا إن الله مع الصابرين .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وقال "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا". . وفي حديث: اللبيب في الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء. "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت"
فإذا كان ما ثم غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله ولا تجعل مع الله إلها آخر يقتضي أنه ثم شيء غيره، شيء لا يجوز أن نجعله إلها، ولكن يجوز أن نجعله غير إله عبدا ومملوكا. [ ص: 400 ]
وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلها فما جعلت معه إلها، إذ ما ثم غيره، فيجوز عندهم أن يجعل كل شيء إلها وما يكون قد جعل معه إلها، إذ ما ثم معه شيء آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرح به صاحب "الفصوص"، وقال في فص الحكمة النوحية: ومكروا مكرا كبارا لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، كأنه ما عدم في البداية، فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر، وقالوا في مكرهم: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها، يعرفه من عرفه ويجهله من جهله. كما قال في المحمديين: *وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وما قضى الله بشيء إلا وقع. فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود.
ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وإنه لا يتصور أن يعبد إلا الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود هو عين الله كيف يؤمن بقوله ولا تجعل مع الله إلها آخر ؟ وكيف يتصور عنده أن ينهى أحد عن أن يجعل مع [ ص: 401 ] الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم هو الله، وليس هو غيره!
الوجه الثاني