الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ تفضيل النزول والرد عليه ] :

( وقد فضل بعض ) من أهل النظر كما حكاه ابن خلاد والخطيب غير معينين له ( النزول ) ; فإن العلو - كما قال بعض الزهاد - من زينة الدنيا .

قال ابن دقيق العيد : وهو كلام واقع ، فالغالب على الطالبين ذلك . قال : وقولهم : العلو قرب من الله يحتاج إلى تحقيق وبحث ، وكأنه لما لعله يتضمن من إثبات الجهة ، وذلك غير مراد ، ولأنه يجب على الراوي أن يجتهد في معرفة جرح من يروي عنه وتعديله ، والاجتهاد في أحوال رواة النازل أكثر ، فكان الثواب فيه أوفر .

قال ابن خلاد : وهذا مذهب من يزعم أن الخبر أقوى من القياس ، يعني من جهة أن البحث - والله أعلم - في الخبر أكثر منه في القياس الجلي ، أو لأن تقديم النازل مع اشتماله على كثرة الوسائط المقتضية لتكثير الخبر يتضمن ترجيح الخبر في الجملة . ويساعد هذا القول ظاهر قول ابن مهدي : لا يزال العبد في [ ص: 336 ] فسحة من دينه ما لم يطلب الإسناد ، يعني : التغالي فيه .

واستعمال ( بعض ) بلا إضافة قليل كما قدمته في ( غير ) من مراتب الصحيح .

( وهو ) ; أي : القول بتفضيل النزول ، ( رد ) ; أي : مردود على قائله ; لضعفه وضعف حجته كما قال ابن الصلاح ; لأن كثرة المشقة - فيما قال ابن دقيق العيد - ليست مطلوبة لنفسها .

قال : ومراعاة المعنى المقصود من الرواية - وهو الصحة - أولى ، وأيده المصنف بأنه بمثابة من يقصد المسجد للجماعة فيسلك الطريق البعيدة لتكثير الخطا رغبة في تكثير الأجر ، وإن أداه سلوكها إلى فوت الجماعة التي هي المقصود ، وذلك أن المقصود من الحديث التوصل إلى صحته ، وبعد الوهم ، وكلما كثر رجال الإسناد تطرق إليه احتمال الخطأ والخلل ، وكلما قصر السند كان أسلم .

وسبقه الخطيب فقال : ومنهم ، أي : ومن أهل النظر ، من يرى أن سماع العالي أفضل ; لأن المجتهد مخاطر ، وسقوط بعض الإسناد مسقط لبعض الاجتهاد ، وذلك أقرب إلى السلامة ، فكان أولى .

وكذا قال ابن الصلاح : العلو يبعد الإسناد من الخلل ; لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ، ففي قلتهم قلة جهات الخلل ، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل ، قال : وهذا جلي واضح .

ونحوه قول ابن دقيق العيد : لا أعلم وجها جيدا لترجيح العلو إلا أنه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ ; فإن الطالبين يتفاوتون في الإتقان ، والغالب عدم الإتقان ، فإذا كثرت الوسائط ، ووقع من كل واسطة تساهل ما ، كثر الخطأ والزلل ، وإذا قلت الوسائط قل . انتهى . [ ص: 337 ] .

وهذا موافق لما ذكره الأصوليون في ترجيح ما قلت وسائطه على ما كثرت ; لأن احتمال الغلط فيما قلت وسائطه أقل ، ثم إن ما علل به تفضيل النزول قد يوهم أن الحكم كذلك ولو كان راوي العالي أحفظ أو أوثق أو أضبط أو نحو ذلك . وليس كذلك جزما ، كما أنه إذا انضم إلى النزول الإتقان ، وكان العلو بضده لا تردد - كما قاله ابن دقيق العيد - في أن النزول أقوى ، ونحوه قول المصنف ، وسأذكر المسألة آخر الباب .

وحينئذ فمحل الاختلاف عند التساوي في جميع الأوصاف ما عدا العلو ، ومع ذلك فالعلو أفضل ، وطلبه - كما قال ابن طاهر - من علو همة المحدث ، ونبل قدره ، وجزالة رأيه .

ولذا أجمع أهل النقل على طلبهم له ، ومدحهم إياه ، حتى إن البخاري لم يورد في صحيحه حديث مالك من جهة الشافعي ; لكونه لا يصل لمالك من طريقه إلا بواسطتين ، وهو قد استغنى عن ذلك بإدراكه أصحابه كالقعنبي ، فلم ير النزول مع إمكان العلو .

وقال الإسماعيلي : ولهذا اعتمد البخاري في كثير من حديث الزهري على شعيب ; إذ كان من أحسن ما أدركه من الإسناد ، وأقل من الرواية من طريق معمر ; لأن أكثر حديث معمر وقع له بنزول ، على أن البخاري قد روى عن جماعة ممن سمع منهم تلميذه مسلم بواسطة بينه وبينهم ; كأحمد بن محمد بن حنبل ، وأحمد بن منيع ، وداود بن رشيد ، وسريج بن يونس ، وسعيد بن منصور ، وعباد بن موسى الختلي ، وعبيد الله بن معاذ ، وهارون بن معروف .

مع أن فيهم من روى عنه بدونها ; إما لكونه لم يسمع تلك الأحاديث إلا [ ص: 338 ] منهم ، أو لغير ذلك كما بسطت ذلك في محله . وقيل لابن معين في مرضه الذي مات فيه : ما تشتهي ؟ قال : بيت خال ، وإسناد عال .

( و ) قد ( قسموه ) ; أي : قسم أبو الفضل بن طاهر وابن الصلاح ومن تابعهما العلو ( خمسة ) من الأقسام ، مع اختلاف كلامي المذكورين في ماهية بعضها ، وهي ترجع إلى علو مسافة ، وهو قلة الوسائط ، وإلى علو صفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية