الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ العمل بالأحاديث وتوقير الشيوخ ] ( واعمل بما تسمع ) ببلدك وغيرها من الأحاديث التي يسوغ العمل بها ( في الفضائل ) والترغيبات ; لحديث مرسل : قال رجل : يا رسول الله ، ما ينفي عني حجة العلم ؟ قال : ( العمل ) .

ولقول مالك [ ص: 282 ] بن مغول في قوله تعالى : فنبذوه وراء ظهورهم ، قال : تركوا العمل به . ولقول إبراهيم الحربي : إنه ينبغي للرجل إذا سمع شيئا في آداب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك به ، ولأن ذلك سبب ثبوته وحفظه ونموه والاحتياج فيه إليه .

قال الشعبي ووكيع : كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ، زاد وكيع : وكنا نستعين في طلبه بالصوم ، حكاهما أبو عمر بن عبد البر في ( جامع العلم ) .

وروى الجملة الأولى منه خاصة الخطيب في جامعه من طريق وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية . ولابن عبد البر عن سفيان الثوري قال : العلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب وإلا ارتحل . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ) .

وعن أبي الدرداء قال : من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل . وعن ابن مسعود أنه قال : ما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده . ورويناه عن عمرو بن قيس الملائي أنه قال : إذا [ ص: 283 ] بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله .

وقال النووي في ( الأذكار ) : ينبغي لمن بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة ; ليكون من أهله ، ولا ينبغي أن يتركه مطلقا ، بل يأتي بما تيسر منه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم ) .

قلت : ويروى في الترغيب في ذلك عن جابر حديث مرفوع ، لفظه : ( من بلغه عن الله عز وجل شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانا به ، ورجاء ثوابه ، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك ) . وله شواهد .

وقال أبو عبد الله محمد بن خفيف : ( ما سمعت شيئا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واستعملته ، حتى الصلاة على أطراف الأصابع ، وهي صعبة ) .

وقال الإمام : ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به ، حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا ، فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت .

ويقال : اسم أبي طيبة دينار ، حكاه ابن عبد البر ، ولا يصح . وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال : بت ليلة عند أحمد ، فجاء بالماء فوضعه ، فلما [ ص: 284 ] أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان ، فقال : سبحان الله ! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل .

وقال أحمد أيضا في قصة : صاحب الحديث عندنا من يستعمل الحديث . وعن الثوري قال : إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل ، وصلى رجل ممن يكتب الحديث بجنب ابن مهدي فلم يرفع يديه ، فلما سلم قال له : ألم تكتب عن ابن عيينة حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل تكبيرة ، قال : نعم ، قال : فماذا تقول لربك إذا لقيك في تركك لهذا وعدم استعماله ؟ .

وعن أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي النيسابوري قال : كنت في مجلس أبي عبد الله المروزي ، فلما حضرت الظهر وأذن أبو عبد الله خرجت من المسجد ، فقال لي : يا أبا جعفر ، إلى أين ؟ قلت : أتطهر للصلاة ، ( 1 ) كان ظني بك غير هذا ، يدخل عليك وقت الصلاة وأنت على غير طهارة .

وعن أبي عمرو محمد بن جعفر بن حمدان قال : صلى بنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل ليلة بمسجده ، وعليه إزار ورداء ، فقلت لأبي : يا أبة ، أهو محرم ؟ فقال : لا ، ولكنه يسمع مني المستخرج الذي خرجته ، فإذا مرت به سنة لم يكن استعملها فيما مضى أحب أن يستعملها في يومه وليلته ، وإنه سمع في جملة ما قرئ علي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في إزار ورداء ، فأحب أن يستعمل هذه السنة قبل أن [ ص: 285 ] يصبح .

وعن بشر بن الحارث أنه قال : يا أصحاب الحديث ، أتؤدون زكاة الحديث ؟ فقيل له : يا أبا نصر ، وللحديث زكاة ؟ قال : نعم ، إذا سمعتم الحديث فما كان فيه من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه . وفي لفظ عنه رويناه بعلو في جزء الحسن بن عبد الملك أنه قيل له : كيف نؤدي زكاته ؟ قال : اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث .

وروينا عن أبي قلابة قال : إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة ، ولا تكن إنما همك أن تحدث به الناس .

وأنشدنا غير واحد عن ابن الناظم أنه أنشدهم لنفسه :


اعمل بما تسمع عن خير الورى بادر إليه لا تكن مقصرا إن     لم تطق كلا فبالبعض اعملن
ولو بربع العشر لا محتقرا     وذاك في فضائل فواجب
لا تتركنه تلق حظا أخسرا

وعن الحسن البصري قال : كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده . وما تقدم عن الإمام أحمد هو المشهور ، [ ص: 286 ] لكن قد روى أبو الفضل السليماني في كتاب ( الحث على طلب الحديث ) من طريق عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال : سألت أحمد قلت : إنما نطلب هذا الحديث ولسنا نعمل به ، قال : وأي عمل أفضل من طلب العلم . وكذا روي نحوه أنه قيل لبعضهم : إلى متى تكتب الحديث ، أفلا تعمل ؟ فقال : والكتابة من العمل .

( والشيخ ) بالنصب من باب الاشتغال ( بجله ) ; أي : عظمه واحترمه ووقره ; لقول طاووس : من السنة أن يوقر العالم ، بل لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ) ، ولا شك أنه بمنزلة الوالد وأعظم .

وإجلاله من إجلال العلم ، وإنما الناس بشيوخهم ، فإذا ذهب الشيوخ فمع من العيش ؟ وقد مكث ابن عباس سنتين يهاب سؤال عمر رضي الله عنهم عن مسألة ، وكذا قال سعيد بن المسيب : قلت لسعد بن مالك رضي الله عنه : إني أريد أن أسألك عن شيء ، وإني أهابك .

وقال أيوب السختياني : كان الرجل يجلس إلى الحسن البصري ثلاث سنين فلا يسأله عن شيء هيبة له ، وقال عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي : ما كان إنسان [ ص: 287 ] يجترئ أن يسأل سعيد بن المسيب عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير . وقال مغيرة بن مقسم الضبي : كنا نهاب إبراهيم النخعي كما يهاب الأمير .

وقال ابن سيرين : رأيت ابن أبي ليلى وأصحابه يعظمونه ويسودونه ويشرفونه مثل الأمير . وقال أبو عاصم : كنا عند ابن عون وهو يحدث ، فمر بنا إبراهيم بن عبد الله بن حسن في موكبه ، وهو إذ ذاك يدعى إماما بعد قتل أخيه محمد ، فما جسر أحد أن يلتفت للنظر إليه فضلا عن أن يقوم هيبة لابن عون .

ويحكى أن البساطي العلامة لم ينقطع عن المجيء لشيخه في يوم اجتياز السلطان دون رفقائه ; فإنهم تركوا الدرس لأجل التفرج عليه ، فأبعدهم الشيخ تأديبا وقربه . وكذا كان بعض مشايخ العجم ممن لقيته يؤدب الطالب إذا انقطع عن الحضور في يومه المعتاد بترك إقرائه في اليوم الذي يليه .

وقال إسحاق الشهيدي : كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند إلى أصل منارة المسجد ، فيقف بين يديه أحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني والشاذكوني والفلاس على أرجلهم يسألون عن الحديث إلى أن تحين صلاة المغرب ، لا يقول لواحد منهم : اجلس ، ولا يجلسون هيبة له وإعظاما .

وعن [ ص: 288 ] البخاري قال : ما رأيت أحدا أوقر للمحدثين من ابن معين .

ومما قيل في مالك :


يدع الجواب فلا يراجع هيبة     والسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى     فهو المهيب وليس ذا سلطان

وعن شعبة قال : ما كتبت عن أحد حديثا إلا وكنت له عبدا ما حيي ، وفي لفظ : ما سمعت من أحد إلا واختلفت إليه أكثر من عدد ما سمعت . وقال ابن المنكدر : ما كنا نسمي راوي الحديث والحكمة إلا العالم .

واستشره في أمورك كلها ، وكيفية ما تعتمده من اشتغالك وما تشتغل فيه إذا كان عارفا بذلك ، واحذر من معارضته ، وما يدعو إلى الرفعة عليه ، ورد قوله ، فما انتفع من فعل ذلك ، واعتقد كماله ; فذلك أعظم سبب لانتفاعك به .

وقد كان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه يقول : اللهم اخف عيب شيخي عني ، ولا تذهب بركة علمه مني .

وسيده وقم له إذا قدم عليك ، واقض حوائجه كلها جليلها وحقيرها ، وخذ بركابه ، وقبل يده ، ووقر مجلسه ، واحتمل غضبه ، واصبر على جفائه ، وارفق به .

( ولا تثاقل عليه تطويلا ) ; أي : ولا تتثاقل بالتطويل ، ( بحيث يضجر ) ; أي : يقلق منه ، ويمل من الجلوس ، بل تحر ما يرضيه ، فالإضجار - كما قال الخطيب - [ ص: 289 ] يغير الأفهام ، ويفسد الأخلاق ، ويحيل الطباع . ثم ساق عن هشيم قال : كان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقا ، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه .

وأورد قبل ذلك ألفاظا صدرت من غير واحد من المحدثين في حق من أضجرهم من الطلاب ; كقول أبي الزاهرية يخاطبهم : ما رأيت أعجب منكم ، تأتون بدون دعوة ، وتزورون من غير شوق ومحبة ، وتملون بالمجالسة ، وتبرمون بطول المساءلة .

وسأل رجل ابن سيرين حين أراد أن يقوم عن حديث ، فقال له : إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق .

وقال إسماعيل بن موسى ابن بنت السدي : دخلنا ونحن جماعة من الكوفيين على مالك ، فحدثنا سبعة أحاديث ، فاستزدناه ، فقال : من كان له دين فلينصرف ، فانصرفوا إلا جماعة أنا منهم ، فقال : من كان له حياء فلينصرف ، فانصرفوا إلا جماعة أنا منهم ، فقال : من كانت له مروءة فلينصرف ، فانصرفوا إلا جماعة أنا منهم ، فعند ذلك قال : يا غلمان ، أقفاءهم ; فإنه لا بقيا على قوم لا دين لهم ولا حياء ولا مروءة .

ويخشى كما قال ابن الصلاح على فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع كما وقع للشريف زيرك أحد أصحاب الناظم حين قرأ ( العمدة ) على الشهاب أحمد بن عبد الرحمن المرداوي في حال كبره وعجزه عن الإسماع إلا اليسير بالملاطفة ، وأطال عليه بحيث أضجره فدعا عليه بقوله : لا أحياك الله [ ص: 290 ] أن ترويها عني ، أو نحو ذلك ، فاستجيب دعاؤه ، ومات الشريف عن قرب ، لا سيما والمجلس إذا طال كان للشيطان فيه نصيب كما قدمته مع شيء مما يلائمه في الباب قبله .

وينبغي أن تكون للشيخ علامة يتنبه بها الطالب للفراغ ، كما جاء عن الأعمش أن إبراهيم النخعي كان إذا أراد أن يقطع الحديث مس أنفه ، فلا يطمع أحد أن يسأله عن شيء . وكان الحسن البصري يقول : اللهم لك الشكر . ولا تستعمل ما قاله بعض الشعراء :


اغثث الشيخ بالسؤال تجده     سلسا يلتقيك بالراحتين
وإذا لم تصح صياح الثكالى     رحت عنه وأنت صفر اليدين

التالي السابق


الخدمات العلمية