الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ معنى التأليف وفوائده ] :

( وبادر إذا تأهلت ) واستعددت ( إلى التأليف ) الذي هو أعم من التخريج والتصنيف والانتقاء ; إذ التأليف مطلق الضم ، والتخريج إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها ، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه أو نحو ذلك ، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين مع بيان البدل والموافقة ونحوهما مما سيأتي تعريفه ، وقد يتوسع في إطلاقه على مجرد الإخراج والعزو .

والتصنيف جعل كل صنف على حدة ، والانتقاء التقاط ما يحتاج إليه من الكتب والمسانيد ونحوها مع استعمال كل منها عرفا مكان الآخر ، فباشتغالك بالتأليف ( تمهر ) - بالجزم مع ما بعده جوابا للشرط المنوي في الأمر - في الصناعة ، وتقف على غوامضها ، وتستبن لك الخفي من فوائدها ، ( وتذكر ) بذلك بين العلماء والمحصلين إلى آخر الدهر ، ويرجى لك بالنية الصادقة الرقي إلى أوج المنافع العظيمة والدرجات العلية الجسيمة .

وقد قال الخطيب ، كما رويناه في جامعه : قلما يتمهر في علم الحديث ، ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من جمع متفرقه ، وألف [ ص: 318 ] مشتته ، وضم بعضه إلى بعض ، واشتغل بتصنيف أبوابه وترتيب أصنافه ; فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس ، ويثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويبسط اللسان ، ويجيد البنان ، ويكشف المشتبه ، ويوضح الملتبس ، ويكسب أيضا جميل الذكر ، وتخليده إلى آخر الدهر كما قال الشاعر :


يموت قوم فيحيي العلم ذكرهم والجهل يلحق أحياء بأموات

انتهى .

ونحوه قول الحسن بن علي البصري :


العلم أفضل شيء أنت كاسبه     فكن له طالبا ما عشت مكتسبا
والجاهل الحي ميت حين تنسبه والعالم     الميت حي كلما نسبا

وما أحسن قول التاج السبكي : العالم وإن امتد باعه ، واشتد في ميادين الجدال دفاعه ، واستد ساعده حتى خرق به كل سد سد بابه ، وأحكم امتناعه ، فنفعه قاصر على مدة حياته ، ما لم يصنف كتابا يخلد بعده ، أو يورق علما ينقله عنه تلميذ إذا وجد الناس فقده ، أو تهتدي به فئة مات عنها وقد ألبسها به الرشاد برده ، ولعمري إن التصنيف لأرفعها مكانا ; لأنه أطولها زمانا ، وأدومها إذا مات أحيانا .

ولذلك لا يخلو لنا وقت يمر بنا خاليا عن التصنيف ، ولا يخلو لنا زمن إلا وقد تقلد عقده جواهر التأليف ، ولا يجلو علينا الدهر ساعة فراغ إلا ونعمل فيها القلم بالترتيب والترصيف .

قال الخطيب : وينبغي أن يفرغ المصنف للتصنيف قلبه ، ويجمع له همه ، ويصرف إليه شغله ، ويقطع به وقته ، وقد كان بعض شيوخنا يقول : من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ ، وليأخذ قلم التخريج .

وحدثني محمد بن علي بن عبد الله [ ص: 319 ] الصوري قال : رأيت أبا محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام في سنة إحدى عشرة وأربعمائة ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، خرج وصنف قبل أن يحال بينك وبينه ، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك ، ثم انتبهت .

وساق قبل يسير عن عبد الله بن المعتز أنه قال : علم الإنسان ولده المخلد . وعن أبي الفتح البستي الشاعر أنه أنشد من نظمه :


يقولون : ذكر المرء يبقى بنسله     وليس له ذكر إذا لم يكن نسل فقلت لهم : نسلي بدائع حكمتي
فمن سره نسل فإنا بذا نسلوا

ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية