الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ التنبيه على أربعة أمور ] :

ومما ينبه عليه أمور ; أحدها : إذا وقع في الكتاب تقديم وتأخير ; فمنهم من يكتب أول المتقدم كتابة : يؤخر . وأول المتأخر : يقدم . وآخره ( إلى ) كل ذلك بأصل الكتاب إن اتسع المحل ، أو بالهامش ، ومنهم من يرمز لذلك بصورة ( ميم ) ، وهذا حسن بأن لم يكن المحل قابلا لتوهم أن الميم رقم لكتاب مسلم ، ثم إن محله في أكثر من كلمة لكون شيخنا كان يرى في الكلمة الواحدة الضرب عليها وكتابتها في محلها .

ثانيها : إذا أصلح شيئا نشره حتى يجف لئلا يطبقه فينطمس فيفسد المصلح وما [ ص: 103 ] يقابله ، فإن أحب الإسراع تربه بنحاتة الساج ، ويتقي استعمال الرمل ، إلا أن يزيل أثره بعد جفافه ، فقد كان بعض الشيوخ يقول : إنه سبب للأرضة . وكذا يتقي التراب ، كما صرح به الخطيب في ( الجامع ) .

وساق من طريق عبد الوهاب الحجبي قال : كنت في مجلس بعض المحدثين ، وابن معين بجانبي ، فكتبت صفحا ثم ذهبت لأتربه فقال لي : لا تفعل ، فإن الأرضة تسرع إليه ، قال : فقلت له : الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( تربوا الكتاب فإن التراب مبارك ، وهو أنجح للحاجة ) . قال : ذاك إسناد لا يسوى فلسا . ونحوه قول العقيلي : لا يحفظ هذا الحديث بإسناد جيد . بل قال ابن حبان : إنه موضوع .

قلت : وفيه نظر ، فهو عند الترمذي في الاستئذان من ( جامعه ) من طريق حمزة النصيبي ، عن أبي الزبير ، عن جابر رفعه : ( إذا كتب أحدكم كتابا فليتربه ، فإنه أنجح للحاجة ) .

وقال عقبه : إنه منكر لا نعرفه إلا من هذا الوجه . كذا قال ، وقد رواه ابن ماجه في الأدب من ( سننه ) من طريق بقية بن الوليد ، عن أبي أحمد بن علي الكلاعي ، عن أبي الزبير ، لكن بلفظ : ( تربوا صحفكم أنجح لها ; لأن التراب مبارك ) بل في الباب عن ابن عباس وأبي هريرة ، وكلاهما عند ابن عدي في ( كامله ) ، لفظ أولهما : ( تربوا الكتاب واسحوه - أي : اقشروه من أسفله - فإنه أنجح للحاجة ) .

وعن هشام بن زياد أبي المقدام ، عن الحجاج [ ص: 104 ] بن يزيد ، عن أبيه رفعه : ( تربوا الكتاب فإنه أنجح له ) إلى غيرها من الطرق الواهية ، ويمكن - إن ثبت - حمله على الرسائل التي لا تقصد غالبا بالإبقاء .

وقد قيل : إن مما يدفع الأرضة كتابة : ( فارق مارق احبس حبسا أو كبلح ) . فالله تعالى أعلم .

ثالثها : إذا أصلح شيئا من زيادة أو حذف أو تحريف ونحوه في كتاب قديم به أسمعة مؤرخة ، حسن ، كما رأيت شيخنا ، فعله أن ينبه معه على تاريخ وقت إصلاحه ليكون من سمع منه أو قرأ قبل مقتصرا عليه ، وكذا من نقل منه على بصيرة من ذلك ، بل كان في كثير من أوقاته يميز ما يتجدد له في تصانيفه بالحمرة لتيسر إلحاقه لمن كتبه قبل .

رابعها : الضرب والإلحاق ونحوهما مما يستدل به بين المتقدمين على صحة الكتاب ، فروى الخطيب في ( جامعه ) عن الشافعي أنه قال : إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح فاشهد له بالصحة .

وعن أبي نعيم الفضل بن دكين قال : إذا رأيت كتاب صاحب الحديث مشججا - يعني : كثير التغيير - فأقرب به من الصحة . وأنشد ابن خلاد لمحمد بن عبد الملك الزيات يصف دفترا :


وأرى رشوما في كتابك لم تدع شكا لمرتاب ولا لمفكر     نقط وأشكال تلوح كأنها
ندب الخدوش تلوح بين الأسطر     تنبيك عن رفع الكلام وخفضه
والنصب فيه لحاله والمصدر [ ص: 105 ]     وتريك ما تعيا به فتعيده
كقرينة ومقدما كمؤخر

أما ما نراه في هذه الأزمان المتأخرة من ذلك ، فليس غالبا بدليل للصحة ، لكثرة الدخيل والتلبيس المحيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية