الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ اعتماد عالي الإسناد واجتناب المشكل ] : ( واعتمد ) فيما ترويه ( عالي إسناد ) لما في العلو من الفضل ، وكذا اعتمد ( قصير متن ) لمزيد الفائدة فيه ، يعني بالنظر إلى الأحكام ونحوها ، حتى قال أبو عاصم : الأحاديث القصار هي اللؤلؤ . بخلاف الطويل غالبا .

وقد قال أيوب السختياني : قال لنا عكرمة : ألا أخبركم بأشياء قصار حدثنا بها أبو هريرة : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القربة أو السقاء ، وأن يمنع جاره أن يغرز خشبه في داره ) . إلا أن يكون يشتمل على جمل من الأحكام فينزل كل جملة منها منزلة حديث واحد . قال علي بن حجر :


وظيفتنا مائة للغريب في كل يوم سوى ما يعاد     شريكية أو هشيمية
أحاديث فقه قصار جياد

[ ص: 267 ] وكان علي قد انفرد بشريك وهشيم .

( واجتنب ) في إملاءك ( المشكل ) من الحديث الذي لا تحتمله عقول العوام ، كأحاديث الصفات التي ظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم وإثبات الجوارح والأعضاء للأزلي القديم ( 1 ) ، وإن كانت الأحاديث في نفسها صحاحا ، ولها في التأويل طرق ووجوه ، إلا أن من حقها ألا تروى إلا لأهلها .

( خوف الفتن ) بفتح الفاء وسكون التاء مصدر : فتن ، أي ; الافتتان والضلال ، فإنه لجهل معانيها يحملها على ظاهرها أو يستنكرها فيردها ويكذب رواتها ونقلتها .

وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) . وقول علي : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ) .

وقول ابن مسعود : ( إن الرجل ليحدث بالحديث فيسمعه من لا يبلغ عقله فهم ذلك الحديث فيكون عليه فتنة ) .

وقول أيوب السختياني : ( لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون فتضروهم ) .

وقول مالك : ( شر العلم الغريب ، وخير العلم المعروف المستقيم ) .

وكذا قال الخطيب : ( إن مما رأى العلماء أن الصدوف عن روايته للعوام أولى أحاديث الرخص ، وإن تعلقت بالفروع المختلف فيها دون الأصول ، كحديث الرخصة في النبيذ ) . ثم ذكر أن إطراح أحاديث بني إسرائيل المأثورة عن أهل الكتاب ، وما نقل عن أهل الكتاب ، واجب ، والصدوف عنه لازم ، [ ص: 268 ] وأما ما حفظ من أخبار بني إسرائيل وغيرهم من المتقدمين عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء السلف ، فإن روايته تجوز ، ونقله غير محظور .

ثم روي عن الشافعي أن معنى حديث : ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) أي لا بأس أن تحدثوا عنهم بما سمعتم ، وإن استحال أن يكون في هذه الأمة ، مثل ما روي أن ثيابهم تطول ، والنار التي تنزل من السماء فتأكل القربان . انتهى .

لكن قال بعض العلماء : إن قوله : ( ولا حرج ) في موضع الحال ; أي : حدثوا عنهم حال كونه لا حرج في التحديث عنهم بما حفظ من أخبارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني : وعن صحابته والعلماء ، كما قاله الخطيب ; فإن روايته تجوز ، انتهى .

وقد بينت ذلك واضحا في كتابي ( الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل ) .

وكذا قال الخطيب : وليجتنب ما شجر بين الصحابة ، ويمسك عن ذكر الحوادث التي كان فيهم ; لحديث ابن مسعود الذي أورده في كتابه في ( القول في علم النجوم ) ، رفعه : ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ) . وهو عند ابن عدي من حديث ابن عمر أيضا ، وكلاهما لا يصح .

وقد قال زيد العمي : أدركت أربعين شيخا من التابعين ، كلهم يحدثونا عن الصحابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من أحب جميع أصحابي وتولاهم واستغفر لهم [ ص: 269 ] جعله الله يوم القيامة معهم في الجنة ) .

وقال الضحاك : لقد أمرهم بالاستغفار لهم ، وهو يعلم أنهم سيحدثون ما أحدثوا . وعن العوام بن حوشب قال : أدركت ما أدركت من خيار هذه الأمة ، وبعضهم يقول لبعضهم : اذكروا محاسن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ; لتأتلف عليها القلوب .

قلت : وإنما يتيسر للمملي ما تقرر إثباتا ونفيا ; حيث لم يتقيد بكتاب مخصوص ، وأما مع التقييد ، كما فعل الناظم في تخريج ( المستدرك ) و ( أمالي الرافعي ) ، وشيخنا في تخريج ابن الحاجب الأصلي و ( الأذكار ) ونحو ذلك ، فإنه - والحالة هذه - تابع لأصله ، لا يخرج عنه مع كونه لا ينهض له إلا من قويت في العلم براعته ، واتسعت روايته ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية