الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

المسئول أن يبين لنا عن هذه المشاهد، ومن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صح من الأنبياء والصحابة في دفنهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره، وخالد بن الوليد ذكر أنه كان تربته في حمص ورجله تخط الأرض. وهل يجوز التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: "بحرمة فلان اقض حاجتي" أو يندب له؟ وكيف تكون زيارة الرجل الصالح وما صح من دفن الأنبياء؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلين:

أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول: القبور ثلاثة أقسام:

منها: ما هو حق لا ريب فيه، مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا منقول بالتواتر، وإن كان بعض الرافضة تطعن في قبر أبي بكر وعمر، فهؤلاء مكابرون بهاتون، بمنزلة من ينكر قبر النبي صلى الله عليه وسلم. [ ص: 155 ]

ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقي دمشق، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك أمهات المؤمنين كلهن توفين بالمدينة، فمن قال: إن بظاهر دمشق قبر أم حبيبة أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذب. ولكن من الصحابيات بالشام امرأة يقال لها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيت بالشام، فهذه قبرها محتمل. كما أن قبر بلال ممكن، فإنه دفن بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دفن هناك، وأما القطع بتعين قبره ففيه نظر، فإنه يقال: إن تلك القبور حدثت.

وكذلك القبر المضاف إلى أويس القرني غربي دمشق كذب بلا ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السلمي حكاية فيها أنه توفي بدمشق، وهي باطلة قطعا، فإن أويسا لم يجئ إلى الشام، وإنما ذهب إلى العراق.

وكذلك القبر المضاف إلى هود بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم، فإن هودا لم يجئ إلى الشام، بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة، فقيل: إنه مات باليمن، وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاء قبر معاوية بن أبي سفيان، فإن خلف الحائط تابوت مكتوب فيه اسم معاوية بن أبي سفيان.

وأما الذي خارج باب الصغير الذي يقال: إنه قبر معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات، ولم يعهد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظن الناس أنه معاوية بن أبي سفيان. [ ص: 156 ]

وهكذا يقال في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنوا أنه خالد بن الوليد، كان قد عزله عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارة الشام. وقد اختلف في هذا الذي بحمص هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد، وكذلك اختلف في قبر أبي مسلم الخولاني الذي بداريا على قولين، وكذلك قبور غير هذه اختلف الناس فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلف فيه أهل النقل، فإن كان مع أحدهما ما يرجح به نقله ترجح.

وأما المكذوب قطعا فكثير، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس ودفن بالبقيع، ويقال إن قبة العباس بها قبره وقبر الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها أيضا رأس الحسين، وأما بدنه فهو بكربلاء باتفاق الناس. والذي صح ما ذكره البخاري في صحيحه من أن رأسه حمل إلى عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد روي بإسناد منقطع أو مجهول أنه حمل إلى يزيد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرا وأنكر ذلك. وهذا كذب، فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد، وإنما كان بالعراق. [ ص: 157 ]

وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سبوا وحملوا على الجمال فنبتت لها سنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البخاتي موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتل أشراف بني هاشم، وهذا كذب أيضا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمه صرفه الله عن بني هاشم، فلم يقتل منهم أحدا، وبذلك أمره خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني هاشم أن تتعرض إلى أحد، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما أصابهم، أو كما قال. ولم يقتل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم من هو معروف، لأن زيد بن علي بن الحسين لما صلب بالكوفة، وقد تزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر وأعظم صداقها، فلم يروه كفؤا لها وسعوا في مفارقته إياها، ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يقتل الأشراف أشراف الناس وهم رؤوس قبائل العرب، فظن من ظن أنهم بنو هاشم، وتخصيص لفظ الأشراف بهم عرف حادث، والشرف هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".

وفي الصحيح عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية، [ ص: 158 ] فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، فكلمه فيها فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". فهذه كانت من أشراف قريش، وكانت مخزومية.

وكذلك قبر نوح الذي بجبل بعلبك كذب قطعا، وإنما ظهر من مدة قريبة، وقد بينت حاله لما سألني عنه أهل الناحية وتبين أنه لا أصل له.

وكذلك مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يعرف، وأهل المعرفة بالنقل يعلمون أن هذا أيضا كذب، وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بني بعد بناء القاهرة بنحو مائتي عام.

وكذلك قبر علي عليه السلام الذي بباطنة النجف بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودفن عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم، فإن الخوارج كانوا قد تحالفوا على قتلهم، فقتل عبد الرحمن بن ملجم عليا عليه السلام [ ص: 159 ] وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربه الذي أراد قتله على أليته فعولج من ذلك وعاش، وعمرو بن العاص استخلف على الصلاة رجلا اسمه خارجة، فضربه الخارجي فظنه عمرا، وقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة.

ومثل قبر جابر الذي بظاهر حران، فإن الناس متفقون على أن جابرا توفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها.

ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد الله بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير، وأوصى أن يدفن في الحل لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدفنوه بأعلى مكة.

وكثير من هذه الأسماء يقع فيها الغلط من جهة اشتراك الأسماء، كما وقع في قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلا اسمه جابر أو عبد الله بن عمر دفن هناك، فظن الجهال أنه الصاحب لشهرته، ثم اشتهر ذلك.

وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظن بعض الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أم كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن رقية وأم كلثوم ماتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة تحت عثمان بن عفان وبهما يسمى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم توفيت في حياته، ولم يخلف من بناته إلا فاطمة، ولم يخرج أحد من بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم. [ ص: 160 ]

والمسجد الذي بجانب عرنة الذي يقال له مسجد إبراهيم، فإن بعض الناس يظن أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بني في دولة العباسية علامة على الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم عرفة، فإنه أقام بنمرة إلى حين الزوال، ثم ركب فأتى بطن عرنة عند المكان الذي بني فيه هذا المسجد، فخطب على راحلته، ثم نزل فصلى بهم هناك الظهر والعصر قصرا وجمعا، ثم أتى الموقف بعرفات. وكان بحران مسجد يقال له مسجد إبراهيم، فيظن الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له، وحبس هناك ومات في الحبس، وأوصى إلى أخيه أبي جعفر الملقب بالمنصور.

والقبور المختلف فيها كثيرة، منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإن فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب" : توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، قال: وروى يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل قال: بلغ عمر بن الخطاب أن نسوة من نساء بني المغيرة اجتمعن في دار يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر: وما عليهن أن يبكين على أبي سليمان [ ص: 161 ] ما لم يكن نقع أو لقلقة.

وأما قبر الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودا بمنزلة حجرة النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلي أحد هناك، بل المسلمون لما فتحوا البلاد على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدا يصلون فيه في تلك القرية منفصلا عن موضع الدير، ولكن بعد ذلك نقبت حائط المقبرة كما هو الآن النقب ظاهر فيه، فيقال: إن النصارى لما استولوا على البلاد نقبوه وجعلوه كنيسة، ثم لما فتحه المسلمون لم يكن المتولي لأمره عالما بالسنة حتى يسده ويتخذ المسجد في مكان آخر، فاتخذ ذلك مسجدا، وكان أهل العلم والدين العالمون بالسنة لا يصلون هناك.

التالي السابق


الخدمات العلمية