الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريب فتحت عنوة، ومن قال: إنها فتحت صلحا فاستقر ملك أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره، كما يقوله الشافعي فقوله ضعيف لوجوه كثيرة من المنقولات.

وأيضا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمام قوما من المشركين بغير جزية ولا خراج لم يجز إلا لحاجة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية. أما إذا فتحت الأرض فتح صلح وأهلها مشركون من غير أهل الجزية، فإنه لا يجوز إقرارهم بغير جزية بإجماع المسلمين.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في العام المقبل لما حج أبو بكر لمن لم يسلم منهم أجل أربعة أشهر، وإلا جعله محاربا يستبيح دمه وماله، ولو كان قد فتحها صلحا لم يجز ذلك.

وأيضا فإنه قد استباح قتل جماعة سماهم، لكن فتحها عنوة وأمن من ترك القتال منهم على نفسه وماله إلا نفرا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان مع أبي سفيان، فمنهم من قبله فانعقد له، ومنهم من لم يقبل فحارب أو هرب، والأمان لا يثبت إلا بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتال فلم يؤمنه بحال، لكن خص وأم في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: "ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى [ ص: 374 ] السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كلها ألفاظ معناها: من استسلم فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سماهم الطلقاء، كأنهم أسرهم ثم أطلقهم كلهم.

فقالت الحنفية: لما فتحها عنوة ولم يقسمها، بل أقرها في يد أهلها، صار هذا أصلا في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز بيعها وإجارتها، لكونها فتحت عنوة ولم تقسم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم.

وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعها، فقد علم بالنقل المتواتر فساد قوله مع إجرائه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوه:

أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتها بالإجماع، وبيوت مكة أحسن ما فيها أنه لا يجوز إجارتها، بل يجوز بذلها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدل عليه الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون فتحها عنوة لما منع إجارتها.

الثاني: أن أرض العنوة إنما تمنع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يمنع ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق. [ ص: 375 ]

الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعها أو إجارتها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من هذا؟

الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم إعادتها إليهم فلم يفعل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم استنقذناها، وعرف صاحبها قبل القسمة أعيدت إليه.

الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أجرى عليها أحكام غيرها من العنوة لغنم المنقول والذرية.

بل الصواب أن المانع من إجارتها كونها أرض المشاعر التي يشترك في استحقاق الانتفاع بها جميع المسلمين، كما قال تعالى: سواء العاكف فيه والباد ، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبق إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصة مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيتا في رباط أو مدرسة أو نحو ذلك له اختصاص بسكناه وليس له المعاوضة عليه، أو من يبني بيتا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة [ ص: 376 ] المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك.

فإذا قال: البناء لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك، التأليف أو التأليف والأبعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو لك فقد اعتضت عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة.

أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قسمها فيهم صار يجب على المكيين إنزال الناس في منازلهم، مقابلة الإحسان بالإحسان. فصاحب الهدي له أن يأكل منه مثلا حيث يجوز، ويعطي من شاء ولا يعتاض عنه، وكذلك صاحب المنزل يسكنه ويسكنه ولا يعتاض عنه.

وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيد أربابها من غير خراج مضروب عليهم أصلا، لأن للمقيمين بمكة حقا وعليهم حقا وليست لغيرها من الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوة متناسبا لمنع إجارتها كما ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة.

فإن قيل: فالأرض إذا فتحت عنوة يجوز أمان أهلها على نفوسهم وأموالهم كذلك؟

قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤمن من ترك القتال على نفسه وماله، لما فيه من الانتفاع بترك قتاله، وهو أمان بشرط. [ ص: 377 ]

بل إذا جوزنا المن على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل الأسر للمصلحة كيف أرباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا على حكم حاكم فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عصم نفسه وماله، لأنه لم يتم القهر.

فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلها قهرا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي أدحضت كلا من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمن على المقهورين ويدفع إليهم الأرض مخارجة. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثم أمنهم بعد قهرهم والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمن، ولهذا سماهم الطلقاء. وأما في أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله أعلم. [ ص: 378 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية