الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

ما تقول السادة أئمة الدين - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في مدينة لا يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وأكارعها مسكا، ثم يضع ذلك ويبيعه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكله من أهل الذمة وغيرها، وليس يباع في المدينة رءوس وأكارع وأسقاط إلا على هذا الحكم، ولا يمكن غير ذلك. فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمها حكم ما يأخذها الملوك من الكلف التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تؤخذ من أموال أصحاب الغنم التي يبيعونها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن كانت تؤخذ من المشتري فهي في الحقيقة من مال البائع.

وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذر معرفة أصحابه وردها إليهم، فوجب صرفه في مصالح [ ص: 381 ] المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة، وليس لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقال: إنه فعل محرما يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع من شرائها إضرار بالناس وإفساد بالأموال من غير منفعة تعود على المظلوم، والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه إن شاء أو بنظير ماله.

والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يحكم بأنها حرام محض، ومن اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يقال: إنه فعل محرما لا تأويل فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم" ، وكما ذكر بعض الحنفية. وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه، وإن كان يعتقد المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باع خمرا وأخذ ثمنها، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: "ولوهم بيعها وخذوا أثمانها" وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- ، وهو مذهب الأئمة. [ ص: 382 ]

وهكذا من عمل معاملة يعتقد جوازها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن يشتري منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يرى جواز تلك المعاملة، فإذا قدر أن الوظائف يدفعها من يعتقد جوازها لإفتاء بعض الناس له بذلك، أو لاعتقاده أن أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز، جاز لغيره أن يشتري منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جواز أصل هذا القبض.

وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري ما فعلوه، وإن كان هو لا يجوز ما فعلوه، مثل أن يقبض ولي الأمر عن الزكاة قيمتها فيشتري منه، أو مثل أن يصادر بعض المال مصادرة يعتقد جوازها، أو مثل أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من المال الذي يجوز أخذه وصرفه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد.

وإن كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من نائبه الذي أمره بقبضه، وإن كان المشتري لا يسوغ قبضه. والمشتري لا يظلم صاحبه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضا يتعقد جوازه، وما كان على هذا الوجه فشراؤه حلال على أصح القولين، وليس من الشبهات.

فإنه إذا جاز أن يشترى من الكفار ما قبضوه بعقود يعتقدون جوازها وإن كانت محرمة في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يشترى من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد جوازه- وإن كنا نراه محرما- بطريق الأولى والأحرى، [ ص: 383 ] فإن الكافر تأويله المخالف لدين الإسلام باطل قطعا، بخلاف تأويل المسلم. ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا -وقد قبضوا أموالا يعتقدون جوازها، كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . فأمرهم بترك ما بقي في الذمم، ولا يحرم عليهم ما قبضوه.

وهكذا من كان قد عامل معاملات دنيوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه قبضه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم. [ ص: 384 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية