الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المستقبل للإسـلام

الدكتور / أحمد علي الإمام

معنى .. (الشريعة)

أولا: معنى الشريعة في اللغة العربية

الشرعة، والشريعة، في كلام العرب: مشرعة الماء، وهي مورد الشاربة، التي يشرعها الناس، فيشربون منها، ويستقون.. والعرب لا تسميها شريعة، حتى يكون الماء عدا، لا انقطاع له، ويكون ظاهرا معينا، لا يسقى بالرشاء.. كما ترد كلمة (شرع) بمعنى أظهر، وشرع فلان، إذا أظهر الحق، وقمع الباطل.

والشريعة: العادة، وهذا شرعة ذلك، أي مثاله.. والشارع، الطريق الأعظم، الذي يشرع فيه الناس عامة وأشرع الشيء: رفعه جدا، وحيتان شروع: رافعة رءوسها [1]

ثانيا: معنى الشريعة كما وردت في القرآن الكريم

(أ) يقول الله تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى:13) ، ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية: شرع لكم من الدين، ما شرع لقوم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ثم بين ذلك بقوله تعالى: ( أن أقيموا الدين ) ، وهو توحيد الله، وطاعته، والإيمان برسله، وكتبه، وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما.. ولم يرد المصالح، التي هي مصالح الأمم، على أحسن أحوالها، فإنها مختلفة، متفاوتة. قال تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) (المائدة: 48) . ويتابع القرطبي تفسير هذه الآية، مسندا ذلك إلى [ ص: 125 ] القاضي أبي بكر بن العربي ، أنه قال: ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور: ( ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض ... .. ) [2] وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال، لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، إنما كان نبيا على بعض الأمور، واقتصارا على ضرورات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة، والبقاء، واستقر المدى، إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب في الديانات.. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، صلوات الله عليهم، واحدا بعد واحدا، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان المعنى: أوحيناك يا محمد، ونوحا، دينا واحدا، يعني الأصول، التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزلف إليه بما يرد القلب، والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والأذية للخلق، كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوانات، كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع، دينا واحدا، وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذكر قوله تعالى: ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى: 13) ، أي اجعلوه قائما، يريد دائما، مستمرا، محفوظا، مستقرا، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب، فمن الخلق من وفي بذلك، ومنهم من نكث: ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) (الفتح: 10) .. واختلف الشرائع وراء هذه، في معان حسبما أراده الله، فما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة، وضعه في الأزمنة على الأمم [3] [ ص: 126 ]

(ب) ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) (الجاثية: 18) ، فالشريعة، من شرع الله لعباده، من الدين، والجمع: الشرائع.. والشرائع في الدين، المذاهب، التي شرعها الله لخلقه. فمعنى: ( جعلناك على شريعة من الأمر ) ، أي على منهاج واضح من أمر الدين، يشرع بك إلى الحق.

قال ابن العربي : والأمر يرد في اللغة بمعنيين، أحدهما بمعنى الشأن، كقوله: ( فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ) (هود: 97) .. والثاني أحد أقسام الكلام، الذي يقابله النهي، وكلاهما يصح أن يكون مرادا ها هنا، وتقديره: ثم جعلناك على طريقة من الدين، وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى: ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) (النحل: 123) . ولاخلاف في أن الله تعالى، لم يغاير بين الشرائع في التوحيد، والمكارم، والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع، حسبما علمه سبحانه [4] " قال ابن عباس : (على شريعة) ، أي هدى من الأمر. "

وقال قتادة : الشريعة: الأمر، والنهي، والحدود، والفرائض.

وقال مقاتل : البينة، لأنها طريق إلى الحق.

وقال الكلبي : السنة، لأنه يستند بطريقة من قبله من الأنبياء.

وقال ابن دريد : الدين، لأنه طريق النجاة.

ج- وفي تفسير قوله تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) (المائدة: 48) يذهب الإمام القرطبي ، إلى دلالة هذه الآية: (على عدم التعليق بشرائع الأولين) ، وأن (الشريعة، الطريقة الظاهرة، التي يتوصل بها إلى النجاة) .. [ ص: 127 ] والمنهاج: الطريق المستمر، وهو المنهج.. والمنهج، أي البين، وروى ابن عباس ، والحسن ، وغيرهما: ( شرعة ومنهاجا ) ، سنة، وسبيلا.. ومعنى الآية: أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله.

وهذا في الشرائع والعبادات.. والأصل، والتوحيد، لا اختلاف فيه. روي معنى ذلك عن قتادة . وقال مجاهد : الشرعة، والمنهاج، دين محمد عليه السلام ، وقد نسخ به كل ما سواه [5]

الخلاصة في بيان معنى الشريعة

والخلاصة، أن هذه الآيات، وما سبق في تفسيرها، تدل على شمول معنى الشريعة، لكل ما جاء به الدين، من مباحث الإيمان، وفقه أركان الإيمان، والإسلام، والأسرة، ووجوب الحكم بما شرع الله، حتى يهتدي الناس بذلك في شئون حياتهم كلها، في الاعتقاد، والشعائر التعبدية، والشرائع، التي تنظم حياة المجتمع، في قوانين الأخلاق، والآداب، والمعاملات المدنية، والجنائية، التي تشمل الأحكام الحدية والتعزيرية. ثم أن الله قد أغنى المسلمين، بما شرعة في دين الإسلام، عن متابعة ما لدى الملل الأخرى، أو النظم الغربية، أو الشرقية.

وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، يعني الحكم بما أنزل الله، وهو واجب دينا، قال تعالى: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة: 49) .. ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة: 50) .. ( إن الله يأمركم أن تؤدوا [ ص: 128 ] الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (نساء: 58) .. ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل: 90) .. ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء: 65) .

وأخيرا، فإنه لا سبيل لتحقيق العدل، والإحسان، وأداء الأمانات، إلا بتحكيم الشريعة، والتسليم الكامل لذلك. ثم إنه لا خيار لمسلم، يؤمن بالله، واليوم الآخر، إلا في هذا الاحتكام لشرع الله، وطاعه الله، ورسوله: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب: 36) .

التالي السابق


الخدمات العلمية