الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ 3699 ] أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر ، وأبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ قالا حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق ، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء ، حدثنا عبد المنعم بن إدريس ، حدثني أبي ، عن جده وهب بن منبه قال : ذكر وهب بن منبه : أن آدم لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها لما رأى من سعتها ، ولم ير فيها أحدا غيره ، فقال : يا رب ، أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري ؟ قال الله : إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي . ويقدس لي ، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري ، فيسبحني فيها خلقي وسأبوئك فيها بيتا أختاره لنفسي ، وأخصه [ ص: 448 ] بكرامتي ، وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي ، وأسميه بيتي ، أنظفه بعظمتي ، وأحوزه بحرمتي ، وأجعله أحق البيوت كلها وأولاها بذكري ، وأضعه في البقعة المباركة التي اخترت لنفسي ، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السماوات والأرض ، وقبل ذلك قد كان بغيتي ، فهو صفوتي من البيوت ، ولست أسكنه ، وليس ينبغي أن أسكن البيوت ، ولا ينبغي لها أن تحملني .

أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرما وأمنا ، أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ، ومن أحله فقد أباح حرمتي . من آمن أهله استوجب بذلك أماني ، ومن أخلفهم فقد أخفرني في ذمتي ، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ، ومن تهاون به صغر عندي .

ولكل ملك حيازة ، وبطن مكة حوزتي التي حزت لنفسي دون خلقي ، فأنا الله ذو بكة ، أهلها خفرتي وجيران بيتي ، وعمارها وزوارها وفدي وأضيافي في كنفي وضماني وذمتي وجواري ،

أجعله أول بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجا ، ويرجون بالتلبية رجيجا ، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ووفد إلي ونزل بي ، فحق لي أن أتحفه لكرامتي ، وحق الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره ، وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته .

تعمره يا آدم ما كنت حيا ، ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن . ونبيا بعد نبي ، حتى ينتهي ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد ، وهو خاتم النبيين ، فأجعله من عماره وسكانه وحماته وولاته وحجابه وسقاته ، يكون أميني عليه ما كان حيا ، فإذا انقلب إلي وجدني قد ادخرت له من أجره وفضيلته ما يتمكن به من القربة إلي ، والوسيلة عندي ، وأفضل المنازل في دار المقامة .

وأجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك [ ص: 449 ] يكون قبيل هذا النبي ، وهو أبوه يقال له إبراهيم ، أرفع له قواعده ، وأقضي على يديه عمارته ، وأنيط له سقايته ، وأريه حله وحرمه ومواقفه ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، وأجعله أمة واحدا قانتا قائما بأمري ، داعيا إلى سبيلي ، اجتبيه ، وأهديه إلى صراط مستقيم ، أبتليه فيصبر ، وأعافيه فيشكر ، وآمره فيفعل ، وينذر لي فيفي ، ويعدني فينجز ، أستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم ، وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدمه وخزانه وحجابه حتى يبتدعوا ، ويغيروا ، ويبدلوا ، فإذا فعلوا ذلك فأنا أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء .

وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة ، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الجن والإنس ، يطؤون فيها آثاره ، ويتبعون فيها سنته ، ويقتدون فيها بهديه ، فمن فعل ذلك منهم أوفى بنذره ، واستكمل نسكه ، وأصاب بغيته ، ومن لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه ، وأخطأ بغيته ، ولم يوف بنذره . فمن سأل عني يومئذ في تلك المواطن أين أنا فأنا مع الشعث الغبر الموفين بنذورهم ، المستكملين مناسكهم ، المتبتلين إلى ربهم ، الذي يعلم ما يبدون ، وما يكتمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية