وهجر القرآن في واقعنا المعاصر، اتخذ صورا ثلاث:
الأولى: الفصل بين كتاب الله المقروء، وكتابه المنظور، أي الكون.
الثانية: الأمية، وأعني بها الأمية الحضارية، والثقافية، والدينية، وأمية الحرف.
الثالثة: القصور عن فهم عالمية الدعوة.
1- الفصل بين الكتاب المقروء والكتاب المنظور
الفصل بين كتاب الله المقروء، وهو القرآن، وكتاب الله المنظور، وهو الكون، يشكل في خارطة همومنا اليوم، تحديا كبيرا.
ولا بد من إنهاء هذا الفصام، وإزالة الخصام، بين المصحف والكون، في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، حتى يكون الذي يتلو القرآن، ناظرا في الكون، يتأمل خلق السماوات والأرض، ويتدبر سر التوافق بين الأجرام، والتوازن بين الكواكب، ليهتف في الآخر مقرا موقنا: ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة: 138) ، ( ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) (آل عمران: 191) ، ويدرك سر وجوده: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات: 56) .
لهذا ندب القرآن قارئيه، بالسير في الأرض، تنقيبا للخيرات، وطلبا للأرزاق، وأعمارا للكون، واعتبارا بسننه، وقوانينه، ونواميسه: ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت: 20) [ ص: 55 ] ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138) ، ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (غافر: 57) ، وهذا هو سبيلنا إن أردنا حقا أن يكون القرآن دستورنا.
2- الأميـة
أن تبقى الأمية في العالم الإسلامي، إلى يوم الناس هذا، أمر لا ينبغي أن يكون، لأنه بدون محوها وإبعادها عنا تماما، لا يمكننا إقامة أي صرح لحضارتنا، إذ إن حضارة الإسلام قام أساسها على: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق: 1-2) ، فكانت ( اقرأ ) ، أو الأمر بالقراءة، أول كلمة تتنزل من السماء الدنيا، على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
ولكن حقيقة الإشكال، ليست في الأمية الحرفية، بقدر ما هي في الأمية الثقافية، التي لا تعي الكتاب، وإن نظرت فيه، لا تتدبره، وإن قرأت آياته.. إنها الأمية التي تجعل أصحابها يقيمون حروف الكتاب، ويضيعون حدوده، وقد نعى الله تعالي هؤلاء فقال: ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد: 24) ، ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) (ص: 29) ..هذه هي حقيقة الإشكال: الأمية التي لا تعي الكتاب، ولا تتدبره، ولا تتفاعل دينيا مع مشكلات العصر.
3- القصور عن فهم عالمية الرسالة
إن القصور عن فهم عالمية الكتاب، يفضي إلى القصور في تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة في العالمين، وقد قامت الأدلة على عالمية الرسالة منذ العهد الملكي في تنزيل القرآن العظيم: ( وما هو إلا ذكر للعالمين ) (القلم: 52) ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) (التكوير: 27) ، [ ص: 56 ] ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) (الفرقان: 1) .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا للكتاب الذي أنزل عليه، رسولا للعالمين، ورسالته رسالة عالمية: ( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) (الحج: 49) ، ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ: 28) ، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء: 107) ، وأمته من ورائه أمة عالمية، همها دولي، ودعوتها للبشرية، وما أخرجها الله إلا للناس، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران: 110) ، ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة: 143) .