العدل والحقوق المتساوية لغير المسلمين
المساواة أمام القانون
ويتمتع كل مواطن بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء: 58) .. وهذه الآية الكريمة، تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون دينا، أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة: 8) .
وبموجب هذا العقد، يصير غير المسلمين كالمسلمين، في حرمة الدماء، والأموال، ( يقول صلى الله عليه وسلم : من قتل معاهدا لم ير رائحة الجنة، وأن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ) (21) ، ويقول في حديث غيره: ( ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) (22) .
واستقر هذا الفقه يسود في العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، واستمر إلى زمن المماليك، والدولة الإسلامية. واتساقا مع موقف المسلمين الثابت، في حماية غير المسلمين، [ ص: 153 ] من أهل ذمتهم، في دمائهم، وأموالهم، أنه لما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين، دون النصارى، اعترضه الإمام ابن تيمية ، لأنه سرى في حقهم ما يسري في حق المسلمين، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال، لافتكاكهم .. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص، اسمها: (الرسالة القبرصية) [1]
الجزية وحق الدفاع
وحكمة مشروعية عقد الذمة، هي أن يترك الحربي القتال، مع احتمال دخوله في الإسلام، عن طريق مخالطته للمسلمين، واطلاعه على شرائع الإسلام.
وليس المقصود من عقد الذمة، تحصيل المال [2] وقد كان دفع الجزية واجبا على كل رجل بالغ، قادر، حسب طاقته، نظير الحماية والدفاع، حتى إن القادة المسلمين، كانوا يردون على غير المسلمين، ما دفعوا من جزية، إذا لم يقدروا على القيام بواجب الحماية والدفاع، بل كان بعض الخلفاء الراشدين- وهو عمر رضي الله عنه - يسقط دفع الجزية عن غير المسلمين الذين يشتركون مع الجيش، ويؤدون خدمات عسكرية، وهو ما نأخذ به في عصرنا هذا.
والتفسير الصحيح لكلمة الصغار في قوله تعالى: ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (التوبة: 29) ، هو جريان أحكام الشريعة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار [3] ، وفي ذلك يقول الشافعي : [ ص: 154 ]
وسمعت عددا من أهل العلم، يقولون: إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام [4] وفي ذلك رد، على من زعم أن الصغار هو الإذلال.. وتأسيسا على ما تقدم، فليس يصح ما نسب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، من شروط سميت بالشروط العمرية [5] ، وإسنادها ضعيف اتفاقا، حتى إن ابن القيم ، لم يجد سبيلا لتأكيدها، إلا بأن قال: إن شهرة هذه الشروط، تغني عن إسنادها.
وقد أنكر محقق الكتاب، د. صبحي الصالح، هذه العلة، لأن الاستفاضة لم تكن دليلا على الصحة في موضوع تاريخي، تشريعي كهذا، ثم وصف هذه الشروط بأنها متضاربة، ومتناقضة [6] والواقع أن هذه الشروط، تخالف ما صح من جملة العهود، والمواثيق النبوية، كوثيقة المدينة، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، وعهد أبي بكر رضي الله عنه أيضا لأهل نجران، وكانوا نصارى، كما أنها تخالف العهود العمرية، كعهد عمر رضي الله عنه لأهل إيليا، الذي نص على إعطاء الأمان للنصارى، على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وأنهم لا يكرهون، ولا يضار أحد منهم [7]
حق التعليم
ويدل على مكانة العلم في الإسلام، أن أول كلمة نزلت منه هي: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق: 1) ، وتوفير العلم بمختلف تخصصاته، وفنونه، واجب المجتمع، والدولة، وقد شهد الواقع العملي للمسلمين، ما كان يتمتع به غير المسلمين من امتلاك [ ص: 155 ] ناصية العلم، في كثير من التخصصات، التي لا غنى عنها في مجتمع، كالطب والهندسة. ويشمل هذا الحق، الرجل، والمرأة، على السواء.. ومن واجب الدولة، تنمية شخصية الإنسان، وتوسيع ثقافته.. وقد ذهب ابن حزم ، إلى إلزامية التعليم، وأن الإمام يجبر النساء على التعليم [8] .. وفي الجانب التطبيقي، كان التعليم تاريخيا متاحا للجميع، من أدنى المراحل التعليمية، إلى أعلى المراحل، والتخصصات.. وتوزيع الفرص الدراسية، محكوم بأسس عادلة، هي التميز العلمي.
عقوبة المرتد على الخيانة العظمى
وقتل المرتد، ليس عقوبة على الفكر ذاته، لأن غير المسلمين، قد كفل لهم الإسلام، حرية العقيدة، وحمايتها، من غير إكراه، ولا تضييق، لكن هذه العقوبة على الجناية الكبرى، والمكيدة، التي ادعى بها المرتد اعتناق الإسلام، ثم أعلن الخروج منه، للطعن فيه، والإساءة إليه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران: 72) .
ولقد تحدث ابن قيم الجوزية في كتابه، زاد المعاد [9] عن الردة، وأثرها على الأمن الداخلي لدولة الإسلام، وأنها ليست مسألة فردية. [ ص: 156 ]