الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثالث: الحجر على السفيه:

        إذا بلغ الصبى مصلحا لماله ودينه ففك عنه الحجر ودفع إليه ماله ثم صار بعد مفسدا لدينه، وهذا معروف، أو لماله وذلك بأحد أمرين: إما بأن ينفقه في المعاصي كالزنا وشرب الخمر وغير ذلك، أو ينفقه فيما لا مصلحة له فيه ولا غرض كأن يشتري ما يساوي ريالا بمائة ونحو ذلك، بخلاف أكل الطيبات ولبس النواعم من الثياب، والإنفاق على الفقراء والفقهاء فليس من الإفساد في المال، أو صار مفسدا لدينه وماله معا [1] ، والسؤال: هل يعاد الحجر عليه ومن ثم تتقيد حريته ويمنع من التصرف في ماله أو لا يحجر عليه فيفسد المال ويضيع حقوق غيره فيه فيذل بعد عز، ويفتقر بعد غنى ؟

        وفيما يأتي محاولة لاختيار الإجابة عن هذا السؤال:

        السفه في اللغة: ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة. يقال: تسفهت الريح الشجر، أي مالت به [2] .

        وفي الشريعة هو: عبارة عن خفة تعتري الإنسان فتحمله على العمل بـخلاف موجب العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة [3] . ولذا قال تعالى: [ ص: 91 ] ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) (النساء:5)، ولم يفرق الله تعالى بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد ذلك [4] .

        هذا، وقد اختلف الفقهاء في الحجر على السفيه الكبير، وذلك على مذهبين:

        الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيها [5] .

        الثاني: ذهب أبو حنيفة: إلى عدم الحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد [6] . وهذا قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، والحسن البصري [7] . [ ص: 92 ]

        الأدلة:

        استدل المذهب الأول القائل بالحجر على الكبير السفيه بما يأتي:

        أولا: قال تعالى: ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ) (البقرة:282)، الآية نص في إثبات الولاية على السفيه، وذلك لا يتصور إلا بعد الحجر عليه [8] .

        ثانيا: روي أن عبد الله بن جعفر، رضي الله عنهما، كان يفني ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى للضيافة دارا بمائة ألف، وفي رواية بأربعين ألف دينار، فطلب علي من عثمان، رضي الله عنهما، أن يحجر عليه، فقال الزبير بن العوام لعبد الله: أشركني فيها فأشركه، فبلغ ذلك عثمان، رضي الله عنه، فقال: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير، وهو كان معروفا بالكياسة في التجارة ؟ فثبت أنهم كانوا يرون الحجر بسبب التبذير [9] .

        ثالثا: روى يزيد بن هرمز, أن نجدة كتب إلى ابن عباس، رضي الله عنهما، يسأله عن خمس خلال, فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم ؟ ولعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه، ضعيف الإعطاء منها. فإن أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس, فقد انقطع عنه اليتم [10] . [ ص: 93 ]

        رابعا: السفيه مبذر في ماله فيحجر عليه كالصبي بل هو أولى; لأن الصبي إنما يحجر عليه لتوهم التبذير وهو متحقق هاهنا [11] .

        خامسا: ضرر السفه يعود إلى الكافة؛ لأنه لما أفنى ماله بالسفه صار وبالا على الناس وعيالا عليهم يستحق النفقة من بيت المال، والحجر لدفع الضرر عن العامة مشروع بالإجماع، كما في المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس، وحقا لدينه [12] .

        واستدل المذهب الثاني القائل بمنع الحجر على السفيه الكبير بما يأتي:

        أولا: إذا بلغ السفيه خمسا وعشرين سنة يصير جدا؛ لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يولد له لستة أشهر ثم يحمل لولده لاثنتي عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا، وأبا حنيفة يستحيي أن يحجر على من يصلح أن يكون جدا [13] .

        ثانيا: أجاز سبحانه وتعالى مداينة السفيه وحكم بصحة إقراره في مداينته فقال: ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) إلى قوله تعالى: ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا ) (البقرة:282)، وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب لقصور فهمه عن استيفاء ما له وما عليه مما يقتضيه شرط الوثيقة. [ ص: 94 ]

        والمراد بقوله تعالى: ( فليملل وليه بالعدل ) (البقرة:282)، ولي الدين، وقد روي ذلك عن جماعة من السلف, وليس المراد به ولي السفيه المحجور عليه؛ لأن إقراره غير جائز عليه عند أحد [14] .

        ثالثا: روى أنس، رضي الله عنه، أن رجلا كان في عقدته ضعف، وكان يبايع، وأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: احجر عليه. فدعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فنهاه. فقال: يا رسول الله، إني لا أصبر عن البيع فقال: ( إذا بايعت فقل هاء وهاء ولا خلابة ) [15] . قالوا: سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل، فثبت أنه لا يجوز [16] .

        الراجح: ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلين بالحجر على السفيه الكبير؛ لأن المدار على السفه المؤدي إلى هلاك المال وتبذيره وضياع حقوق (الغير) المتعلقة به ومن ثم كان أولى بالحجر من الصبي; لأن الحجر على الصبي كان لتوهم التبذير الناشىء عن نقصان العقل الهادي إلى حفظ المال وكمال الانتفاع به. ولهذا قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف الإعطاء منها" [17] .

        وعلى ذلك: يكون تقييد حرية الكبير السفيه أرجح للمحافظة عليه، وعلى ماله، حتى لا يصير وبالا على الناس وعيالا عليهم. [ ص: 95 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية