الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثالث: أبرز تطبيقات الحرية في مجال الأحوال الشخصية:

        الفرع الأول: حرية المرأة في الزواج وفي اختيار الزوج:

        المرأة قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق وعليها أيضا من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل أن يحوطها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده؛ لأنها مناط شرفه وموطن عرضه، ومن ثم كانت له درجة عليها هي رعاية لها لا يتجاوزها إلى قهرها وجحود حقها، قال تعالى: ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) (البقرة:228).

        ومما يدل على رعاية حرية المرأة وصيانة حقوقها: مشروعية استئذانها وإشراكها في اختيار زوجها؛ لما في إجبارها من فقد الحياة المطمئنة، وحسن المعاشرة بينهما، روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله، وكيف إذنها ؟ قال: أن تسكت ) [1] .

        وروت عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ( قلت: يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن ؟ قال: نعم. قلت: فإن البكر تستأمر فتستحيي، فتسكت، قال: سكاتها إذنها ) [2] . [ ص: 96 ]

        وبذلك سد الباب في وجه الأولياء المستبدين بالأمر، ومن ثم فولاية الولي ليست إجبارا على البالغة العاقلة فلا يزوجها إلا بإذنها إن كانت بكرا أو بأمرها إن كانت ثيبا. ومن هنا بوب البخاري في صحيحه: "باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما"، و "باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود".

        بيد أن الفقهاء اختلفوا في ثبوت ولاية الإجبار للأب في نكاح ابنته البكر البالغة العاقلة، وذلك على مذهبين:

        الأول: ذهب الحنفية إلى انتفاء ولاية الإجبار للأب على ابنته البكر البالغة العاقلة [3] .

        الثاني: ذهب المالكية [4] ، والشافعية [5] ، والحنابلة [6] إلى ثبوت ولاية الإجبار للأب على ابنته البكر البالغة العاقلة، لخبر الدارقطني: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يزوجها أبوها". وخبر أبي داوود: ( الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها ) [7] حيث قسم النساء إلى قسمين وأثبت الحق لأحدهما فدل على نفيه عن الآخر وهي البكر فيكون وليها أحق منها بها [8] . [ ص: 97 ]

        الراجح: هو ما ذهب إليه الحنفية من منع جبر البكر البالغة العاقلة على النكاح، ومن ثم فلابد من الرضا والإذن، وإذن البكر دائر بين القول والسكوت، وجعل السكوت في حقها إذنا؛ لأنها قد تستحي أن تفصح عن رضاها، أما الثيب فلابد من صريح إذنها في العقد، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقا، بل يستحب استئذان أمها في تزويجها، لما روى ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آمروا النساء في بناتهن ) [9] ، حتى تشاركه النظر، وتطييبا لقلبها، وإرضاء لها.

        وعلى ذلك: إذا زوج الولي المرأة البالغة بدون إذنها، بكرا كانت أم ثيبا، فلها فسخ النكاح إذا لم ترضه، يدل على ذلك ما رواه ابن عباس، رضي الله عنهما: ( أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم ) [10] ، فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى [11] .

        اعترض البيهقي بأن: حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفء.

        رد الصنعاني بأن: تأويل البيهقي لا دليل عليه فلو كان كما قال لذكرته المرأة بل قالت: إنه زوجها, وهي كارهة. فالعلة كراهتها فعليها علق التخيير؛ لأنها المذكورة، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم : إذا كنت كارهة فأنت بالخيار [12] . [ ص: 98 ]

        كما روت عائشة رضي الله عنها: ( أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه؛ ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة. قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت يا رسول الله: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء ) [13] . والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت. والمراد بنفي الأمر عن الآباء: نفي التزويج للكراهة؛ لأن السياق في ذلك فلا يقال هو عام لكل شيء [14] .

        وعلى ذلك قال الشوكاني: "وظاهر أحاديث الباب أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد, وإليه ذهب الأوزاعي والثوري والعترة والحنفية, وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم" [15] .

        ومع ذلك: فالمرأة ليست مطلقة الحرية في استبدادها بزواج نفسها ممن تشاء؛ لأن المصلحة وإن كانت تعود إليها أولا وكذلك المضرة، فإن وليها وأسرتها تعود عليهم مصلحتها ومضرتها أيضا؛ لأنها قد تزوج نفسها من غير كفء، فيكون ذلك عارا على أسرتها كلهم [16] . [ ص: 99 ]

        - عضل الولي: /14

        ويعنى بالعضل: منع الولي المرأة من التزوج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه. وموجبه: انتقال الولاية من الولي العاضل إلى غيره.

        وقد وردت نصوص كثيرة تحرم عضل الولي، منها: قول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) (النساء:19)، وقوله: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:232).

        ( وروى معـقل بن يسـار، رضي الله عنه، أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك. قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تبارك وتعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ) إلى قوله: ( وأنتم لا تعلمون ) (البقرة:232). فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة، ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك ) [17] . [ ص: 100 ]

        وقالت عائشة، رضي الله عنها، في قوله: ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) إلى آخر الآية (النساء:127)، قالت: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل، قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك [18] .

        هذا، ولو رغبت المرأة في كفء بعينه وأراد الأب تزويجها من كفء غيره, فقد قال المالكية: كفؤها أولى من كفؤه؛ لأنه أدوم للعشرة، وهذا يفيد أنه لا يجب عليه إجابة كفؤها [19] .

        وقال الشافعية: لزمه الإجابة؛ تحصينا لها، كما يجب إطعام الطفل إذا استطعم فإن امتنع أثم وزوجها السلطان. فلو زوجها الأب بكفء غيره ولو دونه صح; لأنها مجبرة، فليس لها اختيار الأزواج وهو أكمل نظرا منها [20] .

        ويتعين عند الحنابلة تزويجها من الذي رغبت فيه إذا كان كفئا, قال ابن قدامة: "فإن رغبت في كفء بعينه، وأراد تزويجها لغيره من أكفائها، وامتنع من تزويجها من الذي أرادته، كان عاضلا لها [21] . [ ص: 101 ]

        هذا، وحق المرأة على وليها بدلا من أن يعضلها أن يبحث لها عن زوج صالح يعرضها عليه، كما عرض الرجل الصالح إحدى ابنتيه على موسى، عليه السلام، قال تعالى على لسانه: ( قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ) (القصص:27).

        وعرض عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ابنته حفصة حين تأيمت من ابن حذافة السهمي، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، توفي بالمدينة فقال عمر: لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة. فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة [22] . ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        وعلى ما سبق: يمكن القول: إن إذن المرأة معتبر في النكاح سواء كانت بكرا أو ثيبا؛ لأنها تبذل نفسها لمن أذنت له، ولها أن تشاور غيرها إذا كانت مترددة، روت فاطمة بنت قيس ( أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة. فلما حللت ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد.. فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة.. فنكحته، فجعل الله فيه خيرا واغتبطت ) [23] . [ ص: 102 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية