الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        مقدمة

        الحمد لله الذي أوضح لنا معالم الدين، ومن علينا بالكتاب المبين، وشرع لنا من الأحكام، وفصل لنا من الحلال والحرام ما جعله على الدنيا حكما تقررت به مصالح الخلق، وثبتت به قواعد الحق، ووكل إلى ولاة الأمور ما أحسن فيه التقدير، وأحكم به التدبير، فله الحمد على ما قدر ودبر، وصلواته وسلامه على رسوله الذي صدع بأمره، وقام بحقه محمد النبي وعلى آله وصحابته [1] .

        وبعد،

        فالإنسان مكلف ومسؤول عما كلفه الله تعالى به يوم القيامة، فمن تحرر عن قيود التكاليف عوقب بألوان من العذاب، ومن تقيد بها أثيب بأنواع الفضل والمثوبة، قال تعالى: ( إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين ) (الانفطار:13-15).

        أما في الدنيا فالسبل مفتحة أمام الإنسان، يسلك منها ما يشاء ويتصرف فيها على النحو الذي يريد، وهو في هذا يملك حريته، إذ هو غير ممنوع من التصرف، قال تعالى: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (الكهف:29) [ ص: 29 ] [2] .

        وقد اقتضت ضرورة رفع الظلم والعنت عن المجتمع تشريع عقوبات على بعض التكاليف السلوكية كالقصاص من القاتل، والرجم أو الجلد للزاني، وقطع اليد من السارق؛ "حسما للفساد، وزجرا عن ارتكابه، ليبقى العالم على نظم الاستقامة؛ لأن إخلاء العالم عن إقامة الزاجر يؤدي إلى انحرافه" [3] . ولذا قال المرغيناني: "المقصد الأصلي من شرعه [أي: الحد]: الانـزجار عما يتضرر به العباد، والطهارة ليست أصلية فيه" [4] .

        وعلى ذلك: فقد شرعت الحدود لمصلحة تعود إلى كافة أفراد المجتمع؛ لأن في تطبيق حد الزنا صيانة الأنساب، وفي حد السرقة صيانة الأموال، وفي حد الشرب صيانة العقول، وفي حد القذف صيانة الأعراض" [5] .

        لقد تحول القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى ممارسات وتطبيقات عملية ومن ثم تحرر الضمير الإنساني من الإكراه الديني، وتحررت شعوب الشرق من الطغيان، ثم تركت جماهير هذه الشعوب وما يدينون. وظل التنوع الديني والفلسفي والمذهبي والفكري في الحضارة الإسلامية شاهد صدق على الإنجاز الذي تحقق في ميدان الحرية. بينما ضاقت حضارات أخرى حتى بالاختلاف المذهبي داخل الدين الواحد [6] .

        والحرية في جوهرها تعني: كرامة الإنسان، وإنسانية الإنسان، وحياة الإنسان، وأن انتهاكها أشد وأكبر من القتل والقضاء على الحياة، وأن [ ص: 30 ] فرضية الجهاد في الأصل إنما شرعت لحماية الحرية والدفاع عنها ونشرها، قال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (البقرة:193). وليست الفتنة سوى الإكراه والإجبار وحرمان الإنسان من قيمة الحرية [7] .

        وعلى ذلك: فقد سوى الفكر الإسلامي بين الحرية والتحرير من جهة وبين الحياة والأحياء من جهة ثانية؛ لأن الرق والعبودية موت وموات، قال الله تعالى: ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) (النساء:92)، قال النسفي، في تفسيره: "لما أخرج نفسا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات" [8] . وقال أبو حيان: "لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق حياتها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار"[9] .

        ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس، رضي الله عنهما، والأمة من خلفه أن يرفعوا الأغلال عن عقولهم؛ لأن الآجال والأرزاق والنفع والضر بيد الخالق، فقال: ( يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله؛ واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه [ ص: 31 ] الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) [10] .

        كما نهى عن التبعية المقيتة والسلبية القاتلة، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه حذيفة، رضي الله عنه: ( لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا ) [11] .

        ولذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لعمرو بن العاص، رضي الله عنه: "مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟" [12] . وقال علي، رضي الله عنه: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا" [13] .

        وجعل ربعي بن عامر، رضي الله عنه، تحرير الناس هو جوهر رسالة الإسلام لما سأله رستم عن سبب مجيء المسلمين إلى الفرس ؟ فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله" [14] .

        وفيما يأتي قراءة في الفقه الإسلامي لرصد أبرز الفروع والمسائل الفقهية المتعلقة بقضية الحرية، التي قررها الدين وصانتها الأمة فحفظتها الحضارة. [ ص: 32 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية