الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثاني: تخيير المصلي في أداء الصلاة في الوقت الموسع:

        تكلم الأصوليون على الحرية والاختيار في المباح [1] , والمندوب [2] , والواجب المخير [3] : وهو إيجاب شيء مبهم من أشياء محصورة, كخصال الكفارة [4] , وفدية الأذى [5] ، وجزاء الصيد [6] , والواجب الموسع: وهو الفعل الذي طلب الشارع من المكلف أداءه في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه طلبا جازما، أو هو: فعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت لكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت [7] . [ ص: 66 ]

        وعليه: ففي الواجب المخير تفويض الأمر إلى اختيار المكلف وحريته، كتخييره في انتقاء خصلة من خصال الكفارة وغيرها من الأحكام.

        وكذا الحال في الواجب الموسع كتخيير المصلي في أداء الصلاة في الوقت الموسع، وفيما يأتي تفصيل ذلك:

        أولا: اتفق الفقهاء على القول بتخيير المصلي في أداء الصلاة في الوقت الموسع, وهو الوقت الذي وكل إيقاع الصلاة فيه لاختيار المصلي، فإن شاء أوقعها في أوله, أو في وسطه, أو في آخره, ولا إثم عليه فيما يختار.

        ودليل التخيير في أداء الصلاة في الوقت الموسع ما رواه ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثل ظله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض، ثم التفت إلي جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من [ ص: 67 ] قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين ) [8] . وفي حديث بريدة عن مسلم: ( وقت صلاتكم بين ما رأيتم ) [9] .

        وعلى ذلك: فجميع وقت الواجب الموسع وقت لأدائه, يتخير المكلف أن يأتي به في أي وقت شاء من وقته المقدر له شرعا [10] .

        ثانيا: اختلف الفقهاء في تعيين الجزء الذي يتعلق به وجوب الأداء على قولين:

        القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا, بمعنى أنه لا يأثم بتأخيرها. فلو أخرها عازما على فعلها من غير عذر, فمات في أثناء الوقت لم يأثم; لأنه فعل ما يجوز له فعله, إذ هو بالخيار في أداء الصلاة في أي جزء من وقتها, والموت ليس من فعله, فلا يأثم بالتخير، إلا أن يظن الموت, ولم يؤد حتى مات, فإنه يموت عاصيا. [ ص: 68 ] وكذا إذا تخلف ظنه فلم يمت; لأن الموسع صار في حقه مضيقا, وانتفى بذلك اختياره [11] .

        فإن أخرها غير عازم على الفعل أثم بالتأخير بخلاف الراجح عند المالكية [12] , وإن أخرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتسع لجميع الصلاة أثم أيضا.

        واستدلوا بالكتاب والقياس:

        أما الكتاب فاستدلوا منه بقوله تعالى: ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) (الإسراء:78)، والأمر يقتضي الوجوب على الفور; ولأن دخول الوقت سبب للوجوب , فيترتب عليه حكمه حين وجوده.

        أما القياس: فقالوا بجواز تأخير الصلاة عن أول وقتها مع العزم على فعلها, كما تؤخر صلاة المغرب ليلة مزدلفة عن وقتها, وكما تؤخر سائر الصلوات عن أول وقتها إذا كان مشتغلا بتحصيل شرطها [13] .

        القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الصلاة لا تجب في أول الوقت على التعيين, وإنما تجب في جزء من الوقت غير معين. والتعيين للمصلي باختياره من حيث الفعل حتى إذا شرع في أول الوقت يجب في ذلك الوقت, وكذا [ ص: 69 ] إذا شرع في وسطه أو آخره. ومتى لم يعين بالفعل حتى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصلاة يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلا, حتى يأثم بترك التعيين; لأنه لا خيار له في غيره [14] .

        وبناء على ما سبق: فالتخيير دليل على سماحة الشريعة، ويسرها، ومراعاتها لمصالح العباد فيما فوضت إليهم أمر اختياره, مما يجلب النفع لهم ويدفع الضر عنهم، قال تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (البقرة:185).

        التالي السابق


        الخدمات العلمية