الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثاني: أبرز تطبيقات الحرية في الفقه الإسلامي المقارن

        المطلب الأول: أبرز تطبيقات الحرية في مجال العبادات:

        ويشتمل على الفروع الآتية:

        الفرع الأول: قلة التكاليف:

        ( جـاء إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علي غيرها ؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وصيام رمضان. قال: هل علي غيره ؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم : الزكاة. قال: هل علي غيرها ؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق ) [1] .

        قال ابن حجر: "وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا؛ لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى" [2] . [ ص: 63 ] وقال السندي: "مدار الفلاح على الفرائض. والسنن وغيرها تكميلات لا يفوت أصل الفلاح بها" [3] . وقال السيوطي: "الأصل أنه لا إثم على تارك غير الفرائض فهو مفلح، وإن كان غيره أكثر فلاحا منه" [4] .

        وعلى ذلك: فالعبادات التي كلفنا الله تعالى بها محددة لا تستغرق الوقت حتى لا يؤثر الانشغال بأدائها على سير المصالح ودولاب الحياة، وتحصيل الأرزاق، فالصلاة عبادة يومية تؤدى خمس مرات في اليوم والليلة، والصوم والزكاة عبادة سنوية، والحج عبادة عمرية. وهذه العبادات تتوزع ما بين عبادة بدنية كالصلاة والصيام، وأخرى مالية كالزكاة والصدقات، وثالثة جامعة بينهما كالحج والعمرة.

        والقصد هو: تهذيب الأخلاق، واستقامة النفوس وسمو الأرواح. روي عن ثوبان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) [5] . وقال: ( سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله؛ قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة ) [6] . وقال: ( يا أيها الناس خذوا من الأعمال [ ص: 64 ] ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل ) [7] .

        يتبادر مما سبق: أن قلة التكاليف تعطي للفرد حرية بعد قيامه بالتكاليف، لكن الصحيح أن التكاليف للفرد هي منتهى العبودية وهي بطبيعة الحال منتهى الحرية، بل كلما ازداد الفرد في عبوديته بأداء النوافل والمستحبات كلما ارتقى في درجات الحرية.

        قال القفال الكبير: "والمعنى في هذه النوافل: ازدياد العبد في التقرب إلى الله، والاستكثار منها يحل محل الشكر له بالفرائض؛ لأن السيد المنعم قد يرضى من عبده بمقدار من الشكر فإذا زاد العبد كان أحب إليه وأكثر رضى، ولو أغفل ذلك المقدار الواجب كان كافرا للنعمة عاصيا للمنعم" [8] .

        ومن جهة ثانية فالمندوب حمى للواجب أو خادما له أو ذريعة للمداومة عليه، فمن أدى النوافل فإنه لا محالة يؤدي الواجب، ومن قصر في أداء النوافل فهو عرضة لأن يقصر في أداء الواجبات [9] .

        وأيضا المندوب غير لازم بالجزء ولكنه لازم بالكل، كالآذان لا يجوز لأهل بلد أن يتفقوا على تركه وإلا حملوا عليه حملا، وكالنكاح فإنه سنة بالجزء ولكن لا يجوز أن تتركه الجماعة وإلا فنيت الأمة، وكذا سائر النوافل الرواتب [10] . [ ص: 65 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية