الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في إجبار المرأة على رضاع ولدها:

        قال تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة:233)، وذلك لأن لبن الوالدة مناسب في تركيبه الكيميائي، وصفاته الطبيعية لحاجة الرضيع طوال فترة الرضاعة، كما أن دهونه ثلاثية بسيطة، يسهل هضمها وامتصاصها. وأيضا تلبي فيتاميناته احتياجات الرضيع طوال شهوره الأولى، أما أملاحه فهي محددة بنسب يسهل امتصاصها وتمثيلها في جسد الرضيع [1] .

        فوق أن هذا اللبن معقم ومن ثم فهو خال من الميكروبات والفيروسات، وجاهز للرضيع في كل زمان ومكان, وفيه من المضادات الحيوية النوعية، ومن مقويات جهاز المناعة ما يحمي الرضيع من كثير من الأمراض خاصة أمراض الحساسية، والإسهال, والنـزيف المعوي, والمغص, وغيرها [2] .

        وبعد، فهل تجبر الأم على إرضاع ولدها، أو لها الحرية المطلقة في ذلك إن أرادت أرضعت أو لم ترد امتنعت ؟ وهل يختلف الأمر بين شريفة ودنيئة، أو بين موسرة وفقيرة ؟ وهل لو استرضع له الأب امرأة غيرها هل من حقها أن تنـزعه منها ؟ أي: هل الرضاع حق لها أم واجب عليها ؟ ومن جهة [ ص: 103 ] ثانية: فهل تجب الأجرة على الأب إن أرضعت له الأم ؟ أو له الحرية في ذلك إن رضي أعطى، وإن سخط منع ؟

        وفيما يأتي محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات:

        أولا: أقوال الفقهاء فيمن يجب عليه الإرضاع:

        اختلف الفقهاء فيمن يجب عليه إرضاع الولد، وذلك على ثلاثة مذاهب:

        الأول: ذهب الحنفية إلى أنه يجب على الأم إرضاع ولدها ديانة مطلقا، وقضاء إذا كان الأب معسرا أو كان الولد لا يرضع من غيرها [3] .

        الثاني: ذهب المالكية إلى وجوب إرضاع الأم ولدها بلا أجرة إن كانت ممن يرضع مثلها، وكانت الزوجية قائمة ولو حكما كالمطلقة طلاقا رجعيا، أما البائن، والشريفة التي لا يرضع مثلها فلا يجب عليهما الرضاع، إلا إذا تعينت بأن لم يوجد غيرها [4] . وقال أبو ثور: له إجبارها في الأحوال كلها [5] .

        الثالث: ذهب الشافعية [6] والحنابلة [7] إلى أنه يجب على الأب استرضاع الولد، ولا يجب على الأم الإرضاع، وليس له إجبارها عليه، [ ص: 104 ] شريفة كانت أو دنيئة، موسرة كانت أو فقيرة، في عصمتة أم كانت بائنة منه، إلا إذا تعينت بأن لم يجد الأب من ترضع له غيرها، أو لم يقبل الطفل ثدي غيرها، أو لم يكن للأب ولا للطفل مال، فيجب عليها حينئذ.

        بيد أن الشافعية [8] والزيدية [9] ذهبوا إلى أنه يجب على الأم إرضاع الولد اللبأ وإن وجد غيرها، واللبأ هو: ما ينـزل بعد الولادة من اللبن؛ لأن الولد لا يستغني عنه غالبا، ويرجع في معرفة مدة بقائه لأهل الخبرة [10] .

        الأدلة:

        استدل المذهب الأول القائل بوجوب إرضاعها لولدها ديانة بقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن ... ) (البقرة:233), وهو أمر آكد بصيغة الخبر, وإنما لا تجبر عليه لاحتمال عجزها فعذرت فإذا أقدمت عليه ظهرت قدرتها فلا تعذر [11] .

        واستدل المذهب الثاني القائل بوجوب إرضاع الأم ولدها بلا أجرة إن كانت ممن يرضع مثلها: بقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن ... ) [ ص: 105 ] (البقرة:233), وهو لفظ محتمل لكونه حقا عليها أو لها, لكن العرف يقضي بأنه عليها, إلا أن تكون شريفة, وما جرى به العرف فهو كالشرط [12] لا سيما وهذا العرف قديم كان في الجاهلية في ذوي الحسب, وجاء الإسلام عليه فلم يغيره; وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع [13] .

        واستدل أبو ثور القائل بالإجبار مطلقا بقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) (البقرة:233)، وهذا أمر يقتضي الوجوب، وما وجب صح فيه الإجبار.

        واستدل المذهب الثالث القائل بعدم إجبار الأم على الإرضاع مطلقا بقوله تعالى: ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) (الطلاق:6)، واختلافهما دليل على تعاسرهما ومن ثم يحمل قوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن ) (البقرة:233)، على حال الإتفاق وعدم التعاسر، وأما قوله تعالى: ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) (الطلاق:6)، فمن ألفاظ التخيير فسقط الإجبار [14] . [ ص: 106 ]

        كما أن إجبار الأم على رضاعة ولدها لا يخلو: أن يكون لحق الولد أو لحق نفسه، فلو كان لحق الولد لأجبرها عليه بعد الفرقة وليس له ذلك فبطل أن يكون لحق الولد، ولو كان لحق نفسه لأجبرها على رضاع غيره ولكان له إجبارها على خدمته وليس له ذلك فبطل أن يكون لحق نفسه، وإذا بطلا سقط الوجوب وزال الإجبار [15] .

        أما إذا اضطر الصغير إليها أو خشي عليه بأن لا يوجد مرضعة سواها أو لا يقبل الصغير الإرضاع من غيرها: فيجب عليها إرضاعه؛ لأنه حال ضرورة وحفظ النفس كما لو لم يكن له أحد غيرها [16] .

        الراجح: هو ما ذهب إليه المالكية؛ لأن إرضاع الأمهات موكول إلى ما تعارفه الناس؛ إذ العرف كالشرط، ومن ثم يجب الإرضاع على المرأة، إذا كان مثلها يرضع، ولا يجب إذا كانت شريفة لا يرضع مثلها لعلمه عند الزواج أن لا حق له عليها في ذلك أو كانت بائنة ما لم يعرض مانع كعجز المرأة عن الإرضاع لمرض أو موجب كامتناع الصبي من رضاع غيرها. [ ص: 107 ]

        ثانيا: حق الأم في الرضاع:

        الرضاعة تساعد في تنشيط إفرازات الغدد المختلفة في جسد المرضعة حتى لا تحمل وهي ترضع، تجنبا للأخطار الصحية، وإراحة لها من آلام الطمث، لا سيما وقد لوحظ أن الوالدات المرضعات هن أقل إصابة بالأورام السرطانية -خاصة في الصدر والمبيضين- عن غيرهن من المرضعات [17] .

        كما يختلف تفاصيل التركيب الكيميائي لألبان النساء من امرأة إلى أخرى بما يؤثر على نمو الولد واتزانه العاطفي والنفسي, ولذا كان جهازه الهضمي مهيأ أفضل لهضم وامتصاص لبن أمه التي ولدته أفضل من غيرها [18] . قال الماوردي: "فإذا أرادت الأم رضاعه لم يكن للأب منعها؛ لفضل حنوها عليه وإشفاقها، ولاستمرائه لبنها، ولإدراره عليه أكثر من غيرها" [19] . وعلل لذلك الخطيب الشربيني، بقوله: "لأنها عليه أشفق، ولبنها له أصلح" [20] .

        وبعد، فهل لو رغبت الأم في إرضاع ولدها، يجبر الوالد على إجابتها أو لا، خصوصا وأن له عليها حقوقا إذا كانت زوجة له ؟

        وبالنظر في أقوال الفقهاء نجد اختلافهم في ذلك على مذهبين:

        الأول: ذهب الحنفية [21] إلى أن إجابة الأم أولى إن رغبت في إرضاع ولـدها، سـواء كانت زوجيتها قـائمـة أم مطـلـقـة طـلاقا بائنا؛ لقوله تعالى: [ ص: 108 ] ( لا تضار والدة بولدها ) (البقرة: 233)، ولأنها أشفق عليه؛ وانتزاع الولد منها إضرار بها، وهو منهي عنه لقوله عز وجل: ( لا تضار والدة بولدها ) : أي لا يضارها زوجها بانتزاع الولد منها وهي تريد إمساكه وإرضاعه. روي عن الحسن ومجاهد وقتادة قالوا: (هو المضارة في الرضاع). قال الجصاص: فمعناه لا تضار والدة بولدها بأن لا تعطى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل ما ترضعه به الأجنبية, بل تكون هي أولى [22] .

        وعلى ذلك: ذهب الحنابلة إلى منع الوالد من استرضاع غيرها إن رضيت والدته بإرضاعه بأجرة مثلها, بيد أنها لو طلبت أكثر من أجرة مثلها ورضيت غيرها فللزوج أن يسترضع الأجنبية في بيتها; لأنها أحق بإمساكه [23] ، قال تعالى: ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) (الطلاق:6).

        الثاني: ذهب الشافعية إلى أن للزوج منع زوجته من إرضاع ولدها منه إن حصلت مرضعة أخرى; لأنه يستحق التمتع بها وقت الإرضاع، لكن يكره له المنع كما صححه الرافعي، وصحح النووي أنه ليس له منعها; لأنها أشفق على الولد من غيرها، ولبنها له أصلح وأوفق، هذا إذا كان الولد منه وإلا فله منعها [24] .

        الراجح: ما ذهب إليه الحنفية من أن الوالدة أولى بولدها في الرضاع، ولا أجرة لها حال الزوجية، بخلاف بعد الفرقة فليس ذلك بمستحق عليها دينا ولا دنيا. [ ص: 109 ]

        ثالثا: حق الأم في أجرة الرضاع:

        قال تعالى: ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) (الطلاق:6)، قال الخازن: يعني على إرضاعهن, وفيه دليل على أن اللبن وإن كان قد خلق لمكان الولد فهو ملك للأم، وإلا لم يكن لها أن تأخذ عليه أجرا، وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد [25] .

        والسؤال: هل من حق الأمهات طلب الأجرة على إرضاعهن أولادهن سواء كن زوجات أو مطلقات رجعيات أو بائنات ؟

        اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة مذاهب:

        الأول: ذهب الشافعية [26] والحنابلة [27] إلى أن الأم طلب أجرة المثل بالإرضاع سواء كانت في عصمة الأب أم خلية، لقوله تعالى: ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) (الطلاق:6).

        الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الوالدة إن كانت في عصمة الأب أو في عدته فليس لها طلب الأجرة، لأن الإرضاع وإن لم يكن مستحقا عليها في الحكم فهو مستحق في الفتوى ولا يجوز أخذ الأجر على أمر مستحق; لأنه [ ص: 110 ] يكون رشوة ولأنها قد استحقت نفقة النكاح وأجرة الرضاع, وأجرة الرضاع بمنـزلة النفقة فلا تستحق نفقتين؛ ولأن أجر الرضاع يجب لحفظ الصبي وغسله وهو مـن نظـافة البيت, ومنفعـة البيت تـحصل للزوجـين فـلا يجـوز لها أن تأخذ عوضا عن منفعة تحصل لها، بخلاف من لم تكن في عصمته ولا في عدته [28] .

        الثالث: ذهب المالكية إلى أن الأم تجبر إذا كانت ذات الزوج على رضاع ولدها بلا أجر إلا أن تكون ممن لا ترضع لشرفها فذلك على الزوج، قال تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن ) (البقرة: 233)، والرضاع عليها كذلك إن كانت مطلقة طلاقا رجعيا وكانت ممن يرضع مثلها ما لم تنقض العدة، فإذا انقضت أو كان الطلاق بائنا وإن لم تنقض العدة فعلى الأب أجر الرضاع [29] .

        الراجح: هو ما ذهب إليه المالكية من عدم استحقاقها الأجرة إذا كانت زوجيتها قائمة، وكان مثلها يرضع، أما إذا كانت شريفة القدر فلها الأجرة، واستدلوا بالعرف؛ لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، بيد أن العرف قد تغير في أمر الشريفة فلو أرضعت لم تحصل على أجرة في مقابل ذلك.

        وبناء على ذلك: يتفق مذهب الحنفية مع المالكية في عدم استحقاق الأجرة إذا كانت حبال الزوجية قائمة، واستحقاقها إذا تقطعت بينهما. [ ص: 111 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية