الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني: أبرز تطبيقات الحرية في مجال المعاملات:

        الفرع الأول: حرية إنشاء عقود جديدة:

        شرعت العقود لإشباع حاجات الناس المتعددة والمتنوعة؛ لأن كل أحد لا يقدر مثلا على دار يسكنها، وإيجاد عمل يتكسب منه، ومركبة تحمله وأثقاله إلى بلد لم يكن يبلغه إلا بشق الأنفس. وكذا شرعت لمنع التغالب بين الناس عند الاستيفاء.

        وبعد، فهل يجوز للناس بمقتضى الحرية استحداث عقود جديدة لم تكن معروفة عند الفقهاء المتقدمين ؟ وفيما يأتي محاولة للإجابة عن هذا التساؤل:

        اختلف الفقهاء في: هل الأصل في إنشاء العقود الإباحة أو الحظر، وذلك على مذهبين:

        المذهب الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في العقود الجواز والصحة, ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه, وإبطاله نص, أو قياس. قال السرخسي: "الأصل في العقود الصحة" [1] . وقال الدسوقي: "الأصل في عقود المسلمين الصحة حتى يتبين خلافه" [2] . وقال ابن حجر الهيتمي: "الأصل في العقود الجارية بين المسلمين الصحة" [3] . وقال المرداوي: "الأصل في العقود الجواز والصحة" [4] . [ ص: 77 ]

        المذهب الثاني: ذهب الظاهرية [5] ، والأبهري من المالكية [6] إلى أن الأصل في إنشاء العقود والشروط هو الحظر إلا ما ورد الشرع بإباحته.

        الأدلة:

        أولا: استدل المذهب الأول -القائل بصحة استحداث عقود ولا يحرم ويبطل منها إلا ما دل على تحريمه وإبطاله نص أو قياس-بالكتاب والسنة والمعقول:

        أما الكتاب: فاستدلوا منه بالآيات التي أمرت بالوفاء بالعقود والعهود كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) (المائدة:1) وقوله تعالى: ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) (الإسراء:34) وقوله تعالى: ( وكان عهد الله مسئولا ) (الأحزاب:15)، فقد أمر الله تعالى بالوفاء بعهده، ودخل فيه: ما عقده المرء على نفسه من بيع ونذر ونحو ذلك بدليل قوله: ( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل ) (الأحزاب:15)، كما أن الأمر بالوفاء بالعقود الواردة في الآية الأولى عام [7] . [ ص: 78 ]

        نوقش: بأن أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود ليس على عمومه ولا على ظاهره, وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه, فمن عقد على معصية فحرام عليه الوفاء بها. وكذلك قوله تعالى: ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) (النحل:91)، فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه [8] .

        أجيب: بأن التخصيص لا وجه له, وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم, وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله [9] .

        واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ( وأحل الله البيع ) (البقرة:275)، فدل على إباحة كل بيع تبايعه المتبايعان جائزي الأمر فيما تبايعاه عن تراض منهما [10] .

        نوقش: بأن الآية وإن خرجت مخرج العموم فقد أريد بها الخصوص; للنص على منع كثير من البيوع: كبيع ما لم يقبض، وما ليس عند الإنسان، والغرر، والمحرمات من الأشياء.

        أجيب: بأن التخصيص غير مانع من اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه [11] . [ ص: 79 ]

        واستدلوا كذلك بقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء:29)؛ فلم يشترط في التجارة إلا التراضي, وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة, وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان على عقد ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك [12] .

        وأما السنة، فاستدلوا بما روي عن سلمان، رضي الله عنه: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء ؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ) [13] . قال ابن القيم: "فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها, فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال, فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ؟" [14] . [ ص: 80 ]

        نوقش: بأن المسكوت عنه أو المعفو عنه لا يوصف بإذن ولا منع. ولا يدل ذلك على الإباحة, بل يتوقف ذلك على إذن خاص منه سبحانه وتعالى [15] .

        وأما المعقول: فاستدلوا بأن العقود من الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم.. وأسوق فيما يأتي شواهد من نصوص الفقهاء الدالة على ذلك

        قال ابن تيمية: "والعقود في المعاملات هي من العادات التي يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع" [16] .

        وقال الشاطبي: "الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني... فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز" [17] .

        فإذا ثبت أن العقود في المعاملات من العادات وليست من العبادات، فالناس أحرار يتبايعون ويستأجرون وينشئون من العقود كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة [18] .

        ثانيا: استدل المذهب الثاني -القائل: إن الأصل في العقود الحظر- بالكتاب والسنة: [ ص: 81 ]

        أما الكتاب، فاستدلوا منه بقوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم ) (المائدة:3)، حيث أخبر سبحانه أنه أكمل الدين، فمن أباح العقود التي لم تجيء في الشرع فقد زاد في الدين ما ليس منه [19] .

        نوقش: بأن العقود من العادات التي يحتاج إليها الناس في معاشهم, كالأكل, والشرب, واللباس, وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويتاجرون ويتعاقدون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة, كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة, وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها, ولم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي [20] .

        واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) (البقرة:229)، فصح بهذا النص إبطال كل عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحته [21] .

        نوقش: بأن تعدي حدود الله هو: تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه, لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه [22] .

        وأما السنة فاستدلوا بما روي من حديث عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله ؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله [ ص: 82 ] فليس له، وإن اشترط مائة مرة ) [23] . وعليه: فكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة: إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله, أو تحريم ما أباحه, أو إسقاط ما أوجبه, أو إيجاب ما أسقطه, ولا خامس لهذه الأقسام ألبتة [24] .

        يناقش: بأن ما ذكر من تضمن الشرط أو العقد لأحد تلك الأمور الأربعة فقاصر؛ لوجود قسم خامس وهو: ما أباح الله سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياها, فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حراما عليه, أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالا له, أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبا, أو يسقط وجوبه بعد وجوبه, وليس في ذلك تغيير لأحكامه, بل كل ذلك من أحكامه, فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط, وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا.

        واستدلوا أيضا بحديث عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) [25] . فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه إلا ما صح أن يكون عقدا جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه [26] . [ ص: 83 ]

        الراجح: /14 هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من إباحة استحداث عقود جديدة عند الحاجة إليها في غير مخالفة لقواعد وأصول الشريعة؛ لأن الأصل في العقود عدم التحريم حتى يدل دليل على التحريم، وإذا لم تكن حراما لم تكن فاسدة؛ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة، وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود، وانتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالأعيان التي لم تحرم، فثبت بهذا أن العقود التي تنشأ وتبتكر بالعادة هي عقود صحيحة يجوز التعامل بها [27] .

        وهذا ما ذهب إليه كبار المحققين من الفقهاء على مدار العصور:

        قال الجويني: "وليس لهم من العقود بد، ووضوح الحاجة إليها [28] يغني عن تكلف بسط فيها، فليصدروا العقود عن التراضي فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل، وليجروا العقود على حكم الصحة، وفي تفاصيل الشرع ما يعضد هذا" [29] .

        وقال ابن تيمية: "فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصحونها إذا لم يعتقدوا تحريمها" [30] . [ ص: 84 ]

        وقال السنهوري: "ما ذكره الفقهاء من العقود المسماة إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنهم، فإذا استحدثت الحضارة عقودا أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها، كانت عقودا مشروعة" [31] .

        وقال وهبة الزحيلي: "ويصح التعامل بعقود جديدة لم تعرف سابقا من طريق القياس أو الاستحسان أو الإجماع أو العرف الذي لا يصادم أصول الشريعة ومبادئها" [32] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية