الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثالث: الزكاة في مال الصغير والمجنون:

        الناس عبيد الله تعالى، رزقهم وملكهم وفرض عليهم فيما ملكهم الزكاة، فكان حراما عليهم حبسها; لأنه ملكها غيرهم في وقت كما ملكهم أموالهم دون غيرهم، قال تعالى: ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) (الذاريات:19). وقال: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) (الأنعام:141) [1] ، وهذا يدعونا إلى البحث عن مدى: وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون اللذين لا إرادة لهما ولا اختيار، وذلك على النحو التالي:

        - تحرير محل النزاع:

        أولا: اتفق الفقهاء على أن الزكاة تجب على المسلم البالغ العاقل الحر العالم بفرضيتها إذا تمكن من أدائها، وبلغ ماله نصابا. [ ص: 70 ]

        ثانيا: اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون، وذلك على ثلاثة مذاهب، وسبب اختلافهم: هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية. هل هي عبادة، كالصلاة والصيام ؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء ؟ فمن قال: إنها عبادة، اشترط فيها البلوغ، ومن قال: إنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، لم يشترط فيها بلوغا من غيره [2] . وفيما يأتي تفصيل ذلك:

        المذهب الأول: ذهب الجمهور من المالكية [3] ، والشافعية [4] ، والحنابلة [5] ، والزيدية [6] إلى وجوب الزكاة مطلقا في مال الصغير والمجنون، ذكرا كان أو أنثى. وهو قول علي، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وعائشة، والحسن بن علي [7] وبه قال ابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وربيعة, وابن عيينة, وأبو عبيد وغيرهم [8] .

        المذهب الثاني: ذهب ابن مسعود، والثوري، والأوزاعي إلى وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون, ولا تخرج حتى يبلغ الصبي, ويفيق المجنون, وذلك أن الولي ليس له ولاية الأداء, قال ابن مسعود: "أحصي ما يجب في [ ص: 71 ] مال اليتيم من الزكاة, فإذا بلغ أعلمه, فإن شاء زكى وإن شاء لم يزك", أي: لا إثم على الولي بعدئذ إن لم يزك الصبي [9] .

        المذهب الثالث: ذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون، وهو قول الحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والنخعي، بيد أن أبا حنيفة أوجب العشر في زرعهما وثمرتهما, وكذا صدقة الفطر عليهما [10] .

        الأدلـة:

        استدل المذهب الأول القائل بوجوب الزكاة مطلقا في مال الصغير والمجنون بالكتاب والسنة والمعقول:

        أما الكتاب، فاستدلوا بقوله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103)، فلم يخص مالا دون مال، فشمل جميع الأموال سواء كان المالك ذكرا, أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا [11] .

        وأما السنة، فاستـدلوا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: ( ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ) [12] . قال ابن الملك: "أي: يأخذ الزكاة منها فينقص شيئا فشيئا، وهذا يدل على وجوب الزكاة في مال الصبي" [13] . [ ص: 72 ]

        نوقش بأن في إسناده المثنى بن الصباح, وهو ضعيف كما قال ابن حجر [14] .

        وأما المعقول: فاستدلوا بأن الزكاة تراد لثواب المزكي، ومواساة الفقير؛ والصبي والمجنون من أهل الثواب، وأهل المواساة [15] . كما أن الزكاة حق يتعلق بالمال لمصلحة الفقراء والمساكين, فأشبه نفقة الأقارب، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات [16] .

        أدلة المذهب الثالث: استدل المذهب الثالث القائل بعدم وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون بالكتاب، والسنة والمعقول:

        أما الكتاب: فاستدلوا بقوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (المزمل:20)، وفرض الزكاة إنما هو على من وجبت عليه الصلاة، وكيف يكون عليه الزكاة, والصلاة عنه ساقطة, وكذلك أكثر الفرائض ؟ ألا ترى أنه يزني ويشرب الخمر فلا يحد، ويكفر فلا يقتل ؟ [17] .

        نوقش: بأن شريعتي الصلاة والزكاة، لا تقاس بعضها ببعض؛ لأنها أمهات، تمضي كل واحدة على فرضها وسنتها، وقد وجدت مختلفة في أشياء كثيرة، منها: أن الزكاة تخرج قبل حلها ووجوبها، فتجزئ عن [ ص: 73 ] صاحبها عند الحنفية، والصلاة لا تجزئ إلا بعد دخول الوقت. ومنها: أن الزكاة تجب في أرض الصغير إذا كانت أرضه عشرية، وهو لا تجب عليه الصلاة. ومنها: أن المكاتب تجب عليه الصلاة، ولا تجب عليه الزكاة، فالصلاة ساقطة عن الصبي، والصدقة في أرضه واجبة عليه، والزكاة ساقطة عن المكاتب، والصلاة فرض عليه، فهذا اختلاف متفاوت [18] . ولذا، قال أبو عبيد: "ومما يباعد حكم الصلاة من الزكاة أيضا: أن الصلاة إنما هي حق يجب لله عز وجل على العباد فيما بينهم وبينه، وأن الزكاة شيء جعله الله حقا من حقوق الفقراء في أموال الأغنياء" [19] .

        أما السنة: فاستدلوا منها بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم ) [20] . وفي إيجاب الزكاة في مال الصغير والمجنون إجراء القلم عليهما, والوجوب يختص بالذمة، ولا يجب في ذمة الولي فلا بد من القول بوجوبه عليهما [21] .

        نوقـش: بأن المراد مـن قولـه صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة ) [22] رفـع الإثـم والوجـوب, ومن ثـم فلا وجوب عليهما ولا إثم, بل الوجوب في [ ص: 74 ] مالهمـا, ويطـالب وليهـما بإخراجها قياسا على ما يجب في مالهما قيمة لما أتلفاه.

        وأما المعقول: فالزكاة عبادة, فلا تتأدى إلا بالاختيار تحقيقا لمعنى الابتلاء, ولا اختيار للصبي والمجنون لعدم العقل [23] . وقياسا على عدم وجوبها على الذمي؛ لأنه ليس من أهل العبادة [24] .

        فإن قيل: الصلاة والصوم والإيمان على أصلكم يصح من الصبي, فإما أن يكون باختيار أو غيره فإن كان الأول فلتصح الزكاة بمثله من الاختيار، وإن كان الثاني انتقض قولكم: (وكل ما هو عبادة لا يتأدى إلا بالاختيار). فالجواب: إن اختيار الصبي للصلاة والصوم والإيمان لا يستلزم ضررا لعدم الوجوب عليه, بيد أن اختياره للزكاة يستلزم الضرر فلا يكون مثل ذلك [25] .

        هذا، وقد استدل أبو حنيفة لوجوب العشر على الصبي والمجنون في زكاة زروعهما وثمارهما؛ بأنه في معنى مؤنة الأرض, ومعنى العبادة فيه تابع [26] .

        نوقش: بأن القياس يقتضي: أن من وجب العشر في زرعه وجبت الزكاة في سائر أمواله. ولا فرق بين ما يدل عليه قوله تعالى: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) (الأنعام:141)، وقوله: ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) (الذاريات:19). كما لا فرق بين ما يدل عليه قوله عليه [ ص: 75 ] السلام: ( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر ) [27] ، وقوله: ( في الرقة [28] ربع العشر ) [29] . وعليه: فالتفرقة بين الزروع والثمار والأموال الأخرى تفرقة ليس لها أساس معقول ولا منقول [30] . قال ابن رشد: "وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض، أو لا تخرجه: وبين الخفي، والظاهر، فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت" [31] .

        الراجح: هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون مطلقا؛ لأن رفع القلم عنهما لم يسقط حقوق الزوجات، وذوي القربى عنهما، فلماذا يسقط حقوق الفقراء والمساكين ونحوهما ؟

        وما ذهبت إليه لا يتعارض مع أصل حرية الصغير والمجنون؛ لأن للمال وظيفة اجتماعية.

        يتبين مما سبق: أن الحنفية راعوا الحرية (الاختيار) في مسألة زكاة مال الصغير والمجنون، ورتبوا على ذلك عدم وجوب الزكاة في مالهما؛ لأن الجبر ممنوع، وإرادتهما غير معتبرة. أما الجمهور فلم يخالفوا ذلك بل قالوا إن الزكاة تتعلق بالأموال، ولا علاقة لها بالأشخاص ماداموا مسلمين. [ ص: 76 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية