الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الحرية وتطبيقاتها في الفقه الإسلامي

        الدكتور / محمد محمود الجمال

        المطلب الثاني: علاقة المنظومة الأخلاقية بالفقه الإسلامي:

        إن المنظومة الأخلاقية في واقعنا المعيش قد أصابها اضطراب شديد بسبب انتشار ثقافة المادية النفعية والتي بدورها تهدد كل ما يتصف بالثبات والإطلاق، بل وتحاول القضاء على الفطرة الإنسانية حتى غاب الضابط للسلوك الذي يحافظ على معاني الرقي الإنساني [1] .

        والأخلاق جمع خلق، والخلق كما قال الجرجاني: "عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا [ ص: 36 ] بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقا سيئا" [2] .

        ومع ذلك غلب على الظنون منذ زمن بعيد أن الأخلاق مجرد أفعال تصدر من الإنسان ولا علاقة لها بتحديد هويته، وهذا غير صحيح؛ لأن ما من فعل يفعله الإنسان إلا وهو مقترن بقيمة خلقية راقية يرتفع بها قدر هذا الفعل، وتزداد به معاني الإنسانية الراقية فيه وفي المجتمع، أو مقترن بقيمة خلقية دنية ينخفض بها قدر هذا الفعل، وتتردى به معاني الرقي الإنساني في كل مجالاته [3] .

        هذا، وموضوع الفقه الإسلامي هو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وذلك عبر النظر العقلي في النصوص وبذل الوسع في فهمها واستخراج الحكم منها، أو استنباط حكم جديد لأمر مستحدث (لا نص فيه)؛ من خلال عمليات التمثيل أو التخريج أو الاستقراء وغير ذلك.

        وعلم الفقه ينظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض بالكيفية التي تجمع بين ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات؛ لينتفي بذلك الضرر منهم على غيرهم، ومن غيرهم عليهم، كما ينظم علاقة المخلوقين بخالقهم عن [ ص: 37 ] طريق عبادات: الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك. ومن ثم تهدف أحكام الفقه الإسلامي إلى تحقيق المصالح للفرد والجماعة، ودرء المفاسد عنهما.

        والأخلاق بالنسبة لعلم الفقه بمثابة القانون الحاكم للتطبيقات الفقهية والممارسات العملية وليست رؤيه فلسفية لا نصيب لها من التطبيق، فالأخلاق معيار للسلوك الإنساني، والشريعة الإسلامية تعتبر الفقه الإسلامي أصل من أصول الدين، كما أن الأخلاق هي الأخرى أصل من هذا الدين [4] .

        وعلى ذلك: نحاول تسليط الضوء على جهود الفقهاء في إقامة الفقه على الأخلاق، لا سيما والحرية مبدأ أصيل يمثل أحد المسالك الأساسية في تكوين الشخصية المنفتحة الواعية، بيد أنها بلا قيد تؤدي إلى فوضى. ومن هنا كانت أهمية القيود والضوابط التي تضمن فاعلية الحرية وحرية الجميع؛ لذا شرع الله عز وجل تكاليف، وكان الدخول تحت هذه التكاليف صعبا على النفوس؛ لأنه أمر مخالف للهوى، وصاد عن سبيل الشهوات، لا سيما والحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه [5] ، ومن هنا كان الإمام مالك، رحمه الله، ينفر من إلزام الناس بما لم يرد في كتاب ولا سنة ولا جرى به العمل عند الصحابة، رضي الله عنهم. [ ص: 38 ]

        وهـذه التكاليف في الحقيقة ليسـت تقييدا للإنسان بل هي في مصلحته؛ ليأخذ كل إنسان حقه دون طغيان على حق أحد. قال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)، ومن ثم "يزول التظالم ولا يقع تهارج ولا تواثب... وفي جملة ذلك بيان أن الله تعالى عرف عباده أنه إنما تعبدهم باستصلاحهم بالشرائع" [6] . وبهذا يمكن السيطرة على النفس وإخضاعها لحكم العقل، وحينئذ تكون هذه القيود حماية للحرية وليست كبتا لها.

        غير أن تقييد المباح من قبل ولاة الأمور أمر صعب ودقيق؛ لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح الحاجية من تحديد الحرية يعد ظلما، ومن ثم يجب عليهم التريث وعدم التعجل [7] . [ ص: 39 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية