الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        - الفرع الثاني: التسعير الجبري:

        تتدخل الدولة غالبا ممثلة في وزارتي التموين والعمل بوضع أسعار محددة لسلع وأعمال معينة تلزم بها التجار وأرباب العمل وإلا كانوا عرضة للجزاء والعقاب. وهذا يدعونا إلى التساؤل:

        هل هذا التسعـير إلزام بالعدل ومنع من الظلم الواقع على الفقراء وضعفاء المجتـمع أم هو مصادرة لحرية التجار وأرباب العمل ونحوهم في التعاقد على النحو الذي يحقق مصالحهم ؟ وهل الشريعة الإسلامية أطلقت الحرية للتجار ليفعلوا ما يريدون دون مراعاة مصالح الناس -خصوصا وأن بعضهم يعمد إلى إغلاء تجارته عند حاجة الناس إليها- أم قيدت حرياتهم [ ص: 85 ] وتصرفاتـهم لتحـقـق المصـلحة وتمنع الضرر ؟ وفيما يأتي محاولة للإجابة على ذلك:

        أولا: تعريف التسعير:

        التسعير في اللغة: هو تقدير السعر. يقال: أسعروا، وسعروا تسعيرا: أي: اتفقوا على سعر [1] .

        والتسعير في الاصطلاح: هو أن يأمر ولي الأمر ونوابه أهل السوق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا فيمنعوا من الزيادة عليه أو النقصان [2] .

        ثانيا: أقوال الفقهاء في حكم التسعير:

        اختلف الفقهاء في مدى جواز أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه، وذلك على ثلاثة مذاهب:

        الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في التسعير هو الحرمة [3] .

        الثاني: ذهب مالك في رواية إلى جواز التسعير، وبه قال سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن عبد الرحمن [4] . [ ص: 86 ]

        الثالث: ذهب الحنفية إلى جواز التسعير إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا، وفي وقت الغلاء كما ذهب الشافعية في وجه [5] .

        ويمكن إرجاع المذاهب الثلاثة السابق ذكرها إلى مذهبين: أحدهما قائل بالتحريم، وثان قائل بالجواز.

        الأدلة:

        استدل المذهب الأول القائل: إن الأصل في التسعير التحريم بما يأتي:

        أولا: قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء:29)، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه ) [6] . والإلزام بالتسعير: مناف للرضا، وطيب النفس [7] .

        ثانيا: روى أنس، رضي الله عنه، قال: ( غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سعر لنا، فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ) [8] . [ ص: 87 ]

        والدلالة من وجهين [9] :

        الأول: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسعر, وقد سألوه ذلك, ولو جاز لأجابهم إليه.

        الثاني: أنه علل بكونه مظلمة، والظلم حرام.

        ثالثا: روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مر بحاطب بن أبي بلتعة، رضي الله عنه، وهو يبيع زبيبا له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا [10] . وروي عنه: أنه لما رجع حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره، فقال له: إن الذي قلت ليس بعزيمة مني، ولا قضاء إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع [11] .

        رابعا: الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم، ومن ثم فلا يجوز للحاكم أن يتعرض لحقهم في تقدير وتحديد ثمن أموالهم وإلا كان حجرا عليهم [12] .

        خامسا: الإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب [ ص: 88 ] السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف؛ لقوله تعالى: ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء:29) [13] .

        سادسا: التسعير سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك, لم يقدموا بسلعهم بلدا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون, ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها, ويكتمها, ويطلبها أهل الحاجة إليها, فلا يجدونها إلا قليلا, فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها, فتغلوا الأسعار, ويحصل الإضرار بالجانبين, جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم, وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه, فيكون حراما [14] .

        واستدل المذهب القائل بالجواز بما يأتي:

        أولا: منع النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك, فقال: ( من أعتق عبدا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا ) [15] , فأعطى الشريك حصته, وعتق عليه العبد، بيد أنه لا يملك أن يساوم المعتق بالذي يريد, بل يقوم جميع العبد قيمة عدل, ويعطيه قسطه من القيمة [16] .

        ثانيا: يجب النظر في مصالح العامة, والمنع من إغلاء السعر والإفساد عليهم، وصفة ذلك كما قال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل [ ص: 89 ] سوق ذلك الشيء, ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم فيسألهم كيف يشترون ؟ وكيف يبيعون ؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم, وللعامة سداد حتى يرضوا به. وبهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل للباعة من الربح ما يقوم بهم, ولا يكون فيه إجحاف بالناس [17] .

        ثالثا: التسعير إلزام بقيمة المثل، ومن ثم فهو إلزام بالعدل الذي ألزم الله به التجار لا سيما إذا ما امتنعوا من بيع سلعهم إلا بزيادة عن قيمتها المعروفة مع ضرورة الناس إليها [18] .

        الراجح: الأصل منع التسعير, ومنع تدخل ولي الأمر في أسعار السلع وحد حريات الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى فساد الأسعار, وإخفاء الأقوات، وإتلاف الأموال.

        أما إذا تعدى أرباب السلع تعديا فاحشا, فإن لولي الأمر الحق في أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل, كمن عنده طعام لا يحتاج إليه, والناس في مخمصة, أو سلاح لا يحتاج إليه, والناس يحتاجون إليه للجهاد ونحو ذلك.

        وعلى ذلك: فالفقهاء منعوا التسعير في الأصل، حتى لا يسلبوا الناس حرياتهم واختياراتهم وتسلطهم على أموالهم إلا إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا به, ولا تتحقق مصلحتهم إلا من خلاله. [ ص: 90 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية