الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثالث: مدى حرية الرجوع عن الدين (الردة) ؟

        تحرص الأمم على الاهتمام بثوابتها والمحافظة عليها، وتحاول أن تحوطها بسياج من الضمانات ووسائل الحمايات لئلا تمس أو تغير أو تبدل أو تحرف. ولعل من أهم الثوابت هو "هوية الأمة" ويعنى بها: كينونتها التي لا تستطيع التخلي عنها، أو التسامح في أي جانب من جوانبها، أو في أي جزء من مقوماتها. ومن هنا فإن الفقهاء المسلمين لم يبعدوا حين عدوا الدين واحدا من الضرورات الإنسانية الخمس، واعتبروه علة لتشريعات كثيرة، وضعوا في مقدمتها الجهاد باعتباره وسيلة دفاع وحماية للدين على المستوى الأمني، وكذا في ثبوت حد الردة [1] .

        هذا، والإيمان نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب أهل هدايته، فيهيئ لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأنس بقربه، فتثبت تلك النفس حين تمتحن وتبتلى؛ ولذا قال هرقل لأبي سفيان -وهو يسأل عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال أبو سفيان: قلت: لا... وفي الأخير قال له هرقل: وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب [2] . [ ص: 130 ]

        وبعد، فهل تغيير الإنسان لعقيدته الإسلامية، وما بني عليها من فكر وتصور وسلوك يستوجب القتل حدا ؟ أم هل يختلف الأمر لو لم يدعو إلى الردة، ولم يخرج على الجماعة أو نظمها أو إمامها، ولم يقطع الطريق، ولم ينضم إلى أعدائها ؟ وهل لو ثبت هذا الحد يتعارض مع حرية الاعتقاد أو لا ؟

        وفيما يأتي محاولة لتوضيح ما سبق:

        الحدود جمع حد، وهو في اللغة: الفصل الحاجز بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر، ويأتي بمعنى: الدفع والمنع، ومنه قيل للبواب والسجان حدادا، لمنع الأول من الدخول، والثاني من الخروج. وسمي المعرف للماهية حدا، لمنعه من الدخول والخروج [3] .

        والحد في الاصطلاح: عقوبة مقدرة تجب على معصية مخصوصة حقا لله أو لآدمي أو لهما كالشرب والقصاص والقذف, فإنه لهما والمغلب فيه حق الآدمي لمضايقته [4] .

        ويطلق لفظ الحد على جرائم الحدود مجازا، فيقال: ارتكب الجاني حدا، ويقصد أنه ارتكب جريمة ذات عقوبة مقدرة شرعا [5] . [ ص: 131 ]

        أما الردة فيعنى بها في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، قال الله تعالى: ( ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) (المائدة:21).

        وفي الشرع: كفر مسلم متقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين، مختارا، بصريح من القول كقوله: أشرك بالله، أو قول يقتضيه كقوله: جسم كالأجسام، أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف أو بعضه ولو كلمة, وكذا حرقه استخفافا لا صونا, ومثل المصحف: الحديث, وأسماء الله, وكتب الحديث وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة [6] .

        وهو محظور لا يجوز الإقرار عليه؛ لأن من علم ليس كمن لم يعلم؛ ومن ذاق حـلاوة الإيمان ليس كمن لم يذق، قال الله تعالى: ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) (المائدة:5)، وقال تعالى: ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ) (البقرة:217)، وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) (المائدة:54)، وقال تعالى: ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ) (النساء:137).

        فإذا ثبت حظر الردة، فهل هي موجبة للقتل حدا أو لا ؟ [ ص: 132 ]

        روى ابن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة ) [7] . قال ابن رجب: "والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين" [8] .

        وروى ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من بدل دينه فاقتلوه ) [9] .

        وقـد أشرف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يوم الدار، فقال: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو ارتداد بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق فقتل به" ؟ فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلونني؟ ) [10] . [ ص: 133 ] وقاتل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الردة ووضع فيهم السيف حتى أسلموا [11] .

        وروي أن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قدم اليمن وبها أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه، فقيل له: إن يهوديا أسلم، ثم ارتد منذ شهرين. فقال: "لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرات، فأمر به، فقتل" [12] .

        وبناء على هذه الأدلة ونحوها أوجب الفقهاء في عصور التشريع المختلفة قتل المرتد، حتى حكى ابن هبيرة الاتفاق على ذلك فقال: "واتفقوا على أن المرتد عن الإسلام يجب عليه القتل" [13] . وقال الشوكاني: "قتل المرتد عن الإسلام متفق عليه في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيله" [14] . وقال أيضا: "الأدلة قد دلت على أن الردة سبب من أسباب القتل وأن هذا السبب مستقل بالسببية كما في حديث: ( من بدل دينه فاقتلوه ) ونحوه " [15] . [ ص: 134 ]

        بل حكى ابن قدامة الإجماع على ذلك فقال: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعـمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسـى وابن عباس وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعا" [16] .

        بيد أن العيني نقل عن ابن الطلاع، قوله: لم يقع في شيء من المصنفات المشهورة أنه قتل مرتدا ولا زنديقا وقتل الصديق امرأة يقال لها أم قرفة ارتدت بعد إسلامها" [17] .

        وقد ورد في صلح الحديبية: ( هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشـا ممن مـع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه ) [18] . فرسول الله صلى الله عليه وسلم وافـق على تسـليم من ارتد عن الإسـلام إلى قريش، ولو كان حدا لما تجاوزه [19] ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "ما ترك... على أحد من أهل دهره لله حدا بل كان أقوم الناس بما افترض الله عليه من حدوده حتى قال في امرأة [ ص: 135 ] سرقت فشفع لها ( إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه ) [20] .

        وروى أنس، رضي الله عنه، قال: بعثني أبو موسى بفتح تستر إلى عمر، رضي الله عنه، فسألني عمر، وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ قال: فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم. فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل ؟ فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء أو بيضاء. قال: قلت يا أمير المؤمنين، وما كنت صانعا بهم لو أخذتهم ؟ قال: كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن" [21] .

        كما أن أم محمد بن الحنفية كانت مرتدة فاسترقها علي واستولدها [22] .

        وروى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ( كان عبد الله بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل فاستجار له عثمان، رضي الله عنه، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [23] . [ ص: 136 ]

        والخـبر يـدل عـلـى أن لا حـد في الـردة وإلا لمـا قـبل رسـول الله صلى الله عليه وسلم فيه شفاعة عثمـان، ولقال له مثل ما قال لأسامة: ( أتشفع في حد من حدود الله ؟ ) [24] .

        يناقش: إن هذا وقع لبعض الناس، آمنوا ثم ارتدوا ثم أظهروا الإيمان فلم يقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أحمد: روينا هذا في عبد الله بن أبي سرح حين أزله الشيطان فلحق بالكفار ثم عاد إلى الإسلام، وروينا في رجل آخر من الأنصار، وروي عن عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استتاب نبهان أربع مرات وكان ارتد [25] .

        القول الراجح: أرى أن الردة إن صاحبها خروج على الجماعة أو نظمها أو إمامها أو قطع طرق أو الانضمام إلى الأعداء أو دعى إلى الارتداد أو كان الارتداد جماعيا فالقتل هو حدهم.

        أما إذا كان الارتداد فرديا لشبه علقت بذهن المرتد أو فتنة لم يصبر عليها ونحو ذلك، فأرى التوقف، وأدعو الله أن أتمكن مستقبلا من إفراد بحث مستقل حول الردة، أحاول فيه، إن شاء الله تعالى، الإجابة عن بعض المسائل مثل: هل هناك تعارض بين الآيات الدالة على حرية الاعتقاد والأحاديث الدالة على وجوب قتل المرتد أو لا ؟، ولماذا قضى رسول الله [ ص: 137 ] بذلك كما قال معاذ ؟ هل لاقترانه بشيء آخر ؟ ولماذا قبل النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية رجوع المرتد إلى الكفار ؟ هل لأن الحدود لم تفرض بعد ؟ وهل تختلف ردة المرأة عن ردة الرجل ؟ وما الفرق ؟ ولعل ثبوت الفرق قد يفسر لنا استرقاق علي بن أبي طالب أم محمد بن الحنفية، وعدم قتلها ؟ ولماذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعة عثمان في ابن أبي السرح ؟ هل لأنه تاب ورجع إلى الإسلام ؟ وبالتالي نفهم قول من قال: يستتاب أبدا ؟ وفي ضوء ذلك نفهم قول عمر، رضي الله عنه، في حق المرتدين من بني بكر بن وائل: "كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن ؟" وحتى متى ؟ إلى آخر هذه المسائل حتى يطمئن القلب للترجيح ؟

        وبعد، فعقوبة الردة أيا كانت لا تشكل اعتداء على حرية الإنسان؛ لخطورتها وتعدد آثارها على سائر المستويات الأسرية والاجتماعية والسياسية وغيرها، لا سيما واعتناق الشخص للدين يرتب آثارا متعددة، يتعلق بعضها بالأسرة كالزواج والطلاق والميراث، ويتعلق بعضها بهوية المجتمع، وبعلاقته بالدولة ونحو ذلك [26] . [ ص: 138 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية