الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثالث: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم:

        أورد هذه القاعدة بهذا اللفظ السيوطي [1] ، كما أوردها ابن نجيم لكن بصيغة الاستفهام [2] ، وجعلها الزركشي مترددة بين الإباحة، والتحريم، والوقف [3] ، وبحثها الأصوليون في مبحثي الاستصحاب، والتحسين والتقبيح العقليين. [ ص: 54 ]

        وتشمل هذه القاعدة بلفظها: قضية حكم الأفعال والأشياء قبل ورود الشرع، وكذا حكم الأفعال والأشياء التي سكت عنها الشرع بعد وروده، فلم يخصها بحكم. واختلاف الفقهاء في صياغة هذه القاعدة مبني على اختلافهم في حكم هذه الأفعال والأشياء بين جازم بأن الأصل في الأشياء الإباحة، وبين جازم بأن الأصل فيها هو التحريم، وبين متردد في الإباحة، أو الحظر فتوقف، وبين مفصل بين المنافع والمضار.

        فالشافعية [4] ، وأكثر الحنفية [5] ، وبعض الحنابلة [6] وأبو الفرج المالكي [7] ذهبوا إلى أن الأصل هو الإباحة.

        وذهب أبو حنيفة [8] وبعض الشافعية [9] ، وبعض الحنابلة [10] والأبهري من المالكية [11] ، إلى أن الأصل هو التحريم؛ لأن التصرف في ملك (الغير) بغير إذنه قبيح، فلا يجوز لأحد أن يتناول شيئا حتى يرد الشرع به [12] . [ ص: 55 ]

        وذهب بعضهم [13] إلى القول بالتوقف بمعنى أن الأصل في الأشياء عدم الحكم أو عدم العلم بالحكم، فليست بمباحة ولا محظورة. ونتيجة هذا القول: إنه لا حرج في الفعل ولا في الترك وهو بمعنى الإباحة، إلا أنهم تحاشوا التعبير بالإباحة؛ لأنها حكم شرعي لابد أن يقوم على دليل.

        وذهب الرازي، والآمدي إلى أنه لا حكم للأشياء قبل الشرع، وأما بعده فإن الأصل في المنافع الإباحة، والأصل في المضار التحريم سواء فصله الله تعالى وذكره باسم، أو لم يكن كذلك وعرفناه بصفة الخبث [14] .

        وعليه: فالقول الأول مع الحرية، والثاني على العكس. والقولان الآخران يؤولان إلى الوفاق العملي مع القول الأول، ومن ثم يتبين أن الإنسان حر مسموح له بالتصرف في نفسه وفيما يزدحم به هذا الكون من خيرات وكائنات ومنافع وإمكانات. فهذا هو الأصل حتى يثبت خلافه بنص، أو يظهر خبثه وضرره [15] .

        وهذه القاعدة قبل أن تحرر الإنسان في سلوكه وتصرفه، تحرره في إيمانه وضميره؛ لأنه يطمئن أن ما لم يرد فيه تحريم ولا تقييد، وكان له فيه رغبة ومصلحة فهو له، ولا حرج فيه ولا خوف منه؛ أما إذا أصبح شاكا خائفا من شبح التحريم والإثم حيثما فكر وقدر، وكلما هم وعزم، وأينما تحرك [ ص: 56 ] واتجه، لمجرد أن كل ما ليس منصـوصا على إباحته فهو حرام، أو يحتمل أن يكون حراما، أو قيل إنه حرام، أو فيه شبهة الحـرام، فقد يدخل في أزمة إيمان وضمير، قبل أن يدخل في أزمة تصرف وتدبير. ومن ثم ندرك قيمة الجمع بين تحليل الطيـبات وتـحريـم الخبائث من جهـة، وإزالة الأغلال والآصار من جهة ثانية في قـوله تعـالى عن النبي محـمـد صلى الله عليه وسلم : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (الأعراف:157) [16] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية