الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الرابع: أبرز تطبيقات الحرية في الجنايات:

        الفرع الأول: مدى حرية الانتحار ؟

        الانتحار يأس، وسخط، وجزع، وضعف، ومن ثم تجد أحدهم ممن اتصف بذلك لأدنى سبب يطعن نفسه بحديدة، أو يقتل نفسه برصاص أو يحرق نفسه، أو يلقي نفسـه من شاهق حتى يـموت، وكان الواجب الصبر وعدم اليأس.

        والسؤال: هل يجوز للإنسان بناء على حرية تصرفه في نفسه أن يهدم بنيان الرب سبحانه بالانتحار ؟ أم تقيد حريته في هذا الخصوص فيمنع من الاعتداء على نفسه ؟.

        وفيما يأتي محاولة للإجابة عن ما سبق:

        أولا: تعريف الانتحار:

        الانتحار في اللغة: مصدر انتحر، بمعنى نحر نفسه، أي: قتلها [1] . وفي الحديث: "انتحر فلان فقتل نفسه" [2] .

        ولم يقصره الفقهاء على النحر بل شمل قتل الإنسان نفسه بأي وسيلة كانت، ومن ثم اصطلحوا له بـ "قتل الإنسان نفسه" [3] . [ ص: 116 ]

        ثانيا: حكم الانتحار: /14

        الانتحار حرام بالاتفاق، ويعتبر من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى، قال تعالى: ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) (الأنعام:151)، وقال: ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما * ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ) (النساء:29-30).

        وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ) [4] .

        كما روى جندب بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة ) [5] .

        هذا، وقد ذهب الفقهاء إلى أن المنتحر أعظم وزرا من قاتل غيره، وهو فاسق وباغ على نفسه، وارتكب كبيرة لا يخرج بها عن كونه مسلما، [ ص: 117 ] ونصوا على أن غسله، وتكفينه، والصلاة عليه من فروض الكفاية كغيره من المسلمين، بل وادعى الرملي الإجماع عليه فقال: "(وغسله) أي: الميت (وتكفينه والصلاة عليه) وحمله (ودفنه فروض كفاية) إجماعا؛ للأمر به في الأخبار الصحيحة، سواء في ذلك قاتل نفسه وغيره" [6] .

        بيد أنهم اختلفوا في جواز صلاة الإمام عليه: فأجازه أبو حنيفة [7] ، ومالك [8] ، والشافعي، وداوود [9] ، وكرهه الحنابلة [10] ، وذهب عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي إلى منع الصلاة عليه مطلقا؛ لأن من لا يصلي عليه الإمام لا يصلي عليه غيره, كشهيد المعركة [11] .

        أما ما جاء في الأحاديث من خلود المنتحر في النار من مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من تردى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ) [12] ، فمحمول على من استعجل الموت بالانتحار، واستحله، فإنه باستحلاله يصير كافرا [13] ، أو أنه ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة.

        ومما يدل على أن المنتحر تحت المشيئة، وليس مقطوعا بخلوده في النار: حديث جابر /32أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: [ ص: 118 ] هل لك في حصن حصين ومنعة، قال: حصن كان لدوس في الجاهلية. فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك ؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم . فقال: ما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم وليديه فاغفر ) [14] .

        قال النووي: "... فيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو فى حكم المشيئة" [15] .

        وعلى ذلك: فالأدلة زاجرة لكل من يتعدى على نفسه بالانتحار وقتل النفس، ومن ثم فلا حرية مكفولة في الاعتداء على النفس؛ لأنه ملك لخالقه لا يحل له أن ينقضه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الإنسان بنيان الله، فملعون من هدم بنيانه ) [16] . [ ص: 119 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية