الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثالث: تخيير المحضون بعد انتهاء الحضانة:

        نقل المتيطي الإجماع على وجوب كفالة الأطفال الصغار؛ "لأنهم خلق ضعيف يفتقر لكافل يربيه حتى يقوم بنفسه, فهو فرض كفاية إن قام به قائم سقط عن الباقي لا يتعين إلا على الأب, ويتعين على الأم في حولي رضاعه إن لم يكن له أب ولا مال أو كان لا يقبل ثدي سواها" [1] .

        ومن المـقرر عنـد افتراق الزوجـين: أن النساء أحـق -في الجملة- بحضانة الصغـار من الرجـال, وتبدأ الحضانة منذ الولادة, بيد أن انتهائها مختلف فيه:

        فذهب الحنفية: إلى أن حضانة النساء على الصغير تظل حتى يستغني عن رعايتهن، وقدر بسبع، وبه يفتى لأنه الغالب. ولو اختلفا في سنه, فإن أكل وشرب ولبس واستنجى وحده دفع إلى أبيه ولو جبرا [2] .

        وذهب المالكية إلى أن حضانة الأم للولد الذكر تستمر حتى بلوغه وذلك على المشهور في المذهب ولو كان زمنا، وحضانتها للأنثى تستمر حتى دخول الزوج بها [3] . [ ص: 112 ]

        وتستمر الحضانة عند الشافعية على المحضون حتى التمييز [4] ، ذكرا كان المحضون أو أنثى [5] ، كما تستمر الحضانة عند الحنابلة في الغلام حتى يبلغ سن السابعة [6] .

        وبعد انتهاء حضانة النساء: هل يخير المحضون بين البقاء عند أمه أو التحول إلى حضانة أبيه ؟ أم يهدر اختياره فيبقى عند أمه حتى ولو رغب في التحول إلى أبيه ؟ وهل له اختيار صحيح أم اختياره مجرد تشهي لا التفات إليه ؟ وفيما يأتي محاولة للإجابة عن ما سبق:

        اختلف الفقهاء في تخيير الصغير بعد انتهاء حضانته بتمييزه أو ببلوغه السابعة، وذلك على مذهبين:

        الأول: ذهب الحنفية [7] إلى أنه إذا انقضت حضانة النساء فلا يخير المحضون، ذكرا كان أو أنثى، بل يضم إلى الأب؛ لأنه لقصور عقله يختار من عنده اللعب, ولم ينقل أن الصحابة، رضي الله عنهم، خيروا، وتظل ولاية الأب على الصغير والصغيرة إلى البلوغ.

        الثاني: ذهب الشافعية والحنابلة إلى تخيير المحضون بين أبيه وأمه إذا تنازعا فيه فيلحق بأيهما اختار، ثم لو عاد فاختار الآخر حول إلى الذي [ ص: 113 ] اختار وهكذا كلما تغير اختياره؛ لأنه قد يتغير حال الحاضن, أو يتغير رأي المحضون فيه بعد الاختيار [8] ، فإن علم أنه إنما يختار أحدهما ليمكنه من فساد ويكره الآخر للتأديب لم يعمل بمقتضى اختياره، كما قال الحنابلة؛ لأنه مبني على الشهوة فيؤدي إلى إضاعته [9] .

        وإن امتنع المحضون عن الاختيار فالأم أولى, لأنها أشفق, واستصحابا لما كان, وإن اختارهما معا أقرع بينهما.

        وإنما يخير الصغير بشرطين:

        أحدهما: أن يكون الأبوان جميعا من أهل الحضانة, فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة, كان كالمعدوم, ويعين الآخر.

        الثاني: أن لا يكون الغلام معتوها, فإن كان معتوها كان عند الأم، ولم يخير; لأن المعتوه بمنـزلة الطفل وإن كان كبيرا [10] .

        واستدلوا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه ) [11] والغلامة كالغلام فتخير بين الأبوين وإن علوا [12] . [ ص: 114 ]

        كما استدلوا بما روي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: ( إن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: فداك أبي وأمي إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة فجاء زوجها، وقال: من يخاصمني في ابني ؟ فقال: يا غلام، هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به ) [13] .

        واستـدلوا أيضا بما روي عن عمارة الجرمي أنه قال: "خيرني علي بين أمي وعمي، ثم قال لأخ لي أصغر مني: وهذا أيضا لو قد بلغ مبلغ هذا خيرته" [14] .

        الراجح: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من تخيير الصغير؛ لأنه إذا مال إلى أحد أبويه دل على أنه أرفق به وأشفق، فإن علم أن اختياره لأحدهما ليمكنه من الفساد ويكره الآخر بسبب تأديبه له لم يعمل بمقتضى اختياره.

        أما ما ذهب إليه الحنفية من انتقاله إلى أبيه بعد انتهاء حضانة الأم، وما ذهب إليه المالكية [15] من بقاء الولد الذكر عند الأم حتى بلوغه، وكذا الأنثى حتى العقد عليها والدخول بها فقد يتصادم مع اختيار الولد مما قد يؤدي إلى نتائج غير مرضية بسبب إجباره على إقامة أكره عليها، وربما كان غير الحاضن أفضل لعلمه أو خلقه أو دينه أو حرصه على الولد. [ ص: 115 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية