الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الفرع الثاني: التعدي على حرية المدعى عليه لأجل الإقرار:

        مر هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس فقال: ما شأنهم ؟ قالوا: حبسوا في الجزية. فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يعذب الذين يعذبون في الدنيا ) [1] .

        وروى أبو هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله ) [2] .

        وجاء في خطبة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده إذن لأقصنه منه.. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أورأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه ؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؛ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم" [3] . [ ص: 120 ]

        وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في عذاب قوم من عمال الخراج بلحوا [4] في يديه وامتنعوا من أداء ما عليهم، فكتب إليه: "أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنة لك من عذاب الله، أو كأن رضائي ينجيك من سخط الله، فمن أعطاك ما قبله عفوا فاقبله، ومن قامت عليه البينة فخذه بما ثبت بالبينة عليه، ومن أنكر فاستحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم، والسلام" [5] .

        وبعد، فتعمد بعض جهات التحقيق إلى تعذيب المدعى عليهم؛ لانتزاع اعترافاتهم وإقرارتهم، وأحيانا يقر بعضهم بما ادعي عليه أملا في إبعاد التعذيب والإكراه عنه... والسؤال: هل يجوز الاعتداء على حريات الناس للحصول على إقراراتهم ؟ أم لا يجوز حتى وإن ضاعت الحقيقة ؟ أم يفرق بين الناس في هذا الشأن، فالمعروف بالإجرام يمكن التعدي عليه وغيره لا ؟

        وفيما يأتي محاولة للإجابة عن ما سبق:

        من المعلوم أن تعذيب المدعى عليهم إكراه، والإكراه: حمل (الغير) على ما لا يرضاه من قول أو فعل, ولا يختار المكره مباشرته لو خلي ونفسه. [ ص: 121 ]

        وينقسم الإكراه إلى: ملجئ وغير ملجئ. والملجيء: هو أن يكرهه بما يخاف على نفسه أو على تلف عضو من أعضائه. وغير الملجئ: هو أن يكرهه بما لا يخاف على نفسه كالحبس والضرب والقيد والوعيد.

        قال شريح: "القيد كره, والسجن كره, والوعيد كره" [6] . وقال النخعي: "القيد إكراه، والسجن إكراه". وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: "ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أجعته أو أوثقته أو ضربته" [7] . وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: "ما من كلام يدرأ عني سوطين من سلطان إلا كنت متكلما به" [8] . وقال ابن حزم: "كل ما كان ضررا في جسم, أو مال, أو توعد به المرء في ابنه, أو أبيه, أو أهله, أو أخيه المسلم, فهو كره" [9] . وعلى ذلك قال سحنون: "وفي إجماعهم على أن الألم والوجع الشديد إكراه، ما يدل على أن الإكراه يكون من غير تلف نفس" [10] .

        أما الإقرار الذي لأجله تنتهك الحرمات والحريات فيعنى به: "إخبار عن ثبوت الحق للغير على نفسه" [11] . وقد أجمع الفقهاء على أنه وسيلة من [ ص: 122 ] أهم وسائل الإثبات، ومن ثم قيل: الإقرار سيد الأدلة؛ لانتفاء التهمة فيه، ولذا اشترطوا في المقر: البلوغ، والعقل، والاختيار، لا سيما وهو حجة قاطعة على من صدر منه، بيد أنه حجة قاصرة على المقر، لا يتعدى أثره إلى غيره؛ لقصور ولاية المقر على غيره.

        هذا، وقد اتفق الفقهاء على بطلان الإقرار المبني على الإكراه الملجيء؛ لأنه يعدم الرضى, ويفسد الاختيار.

        كما اتفقوا على أن إقرار المكره غير الملجيء لا يجب به حد. قال ابن قدامة: "فلو ضرب الرجل ليقر بالزنا، لم يجب عليه الحد، ولم يثبت عليه الزنا، ولا نعلم من أهل العلم خلافا في أن إقرار المكره لا يجب به حد" [12] .

        بيد أنهم اختلفوا في شأن الإقرار المبني على الإكراه غير الملجيء إذا وقع على الأشخاص المعروفين بالتهمة كعتاة الإجرام وأرباب السوابق، وذلك على مذهبين:

        الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية [13] والمالكية [14] والشافعية [15] والحنـابلة [16] إلى عـدم جـواز إكراه المدعـى عليـهم لأجـل الاعتـراف، [ ص: 123 ] وإذا وقـع فإقـرارهم بـاطـل؛ لأن الإقـرار لابد أن يـكون صـادرا عن إرادة حرة.

        قال السرخسي: "ولو أن قاضيا أكره رجلا بتهديد ضرب, أو حبس, أو قيد حتى يقر على نفسه بحد, أو قصاص كان الإقرار باطلا; لأن الإقرار متمثل بين الصدق, والكذب, وإنما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق على جانب الكذب, والتهديد بالضرب, والحبس يمنع رجحان جانب الصدق" [17] .

        واستدلوا بما يأتي:

        أولا: قال تعالى: ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (النحل:106)، فجعل الإكراه مسقطا لحكم الكفر فبالأولى ما سواه كأن ضرب ليقر [18] . قال القرطبي: "لما سمح الله عز وجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم" [19] .

        ثانيا: روى ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) [20] . قال السرخسي: [ ص: 124 ] "وليس للمكره اختيار صحيح معتبر شرعا فيما تكلم به بل هو مكره عليه، والإكراه يضاد الاختيار، فوجب اعتبار هذا الإكراه في انعدام اختياره به لكونه إكراها بالباطل، ولكونه معذورا في ذلك، فإذا لم يبق له قصد معتبر شرعا التحق بالمجنون" [21] .

        كما روي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أتي بسارق، فاعترف، قال: أرى يد رجل ما هي بيد سارق، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق، ولكنهم تهددوني، فخلى سبيله، ولم يقطعه [22] .

        وروي عن ابن سيرين، أنه قال: "رهب قوم غلاما حتى اعترف لهم ببعض ما أرادوا ثم أنكر بعد فخاصموه إلى شريح فقال: هو هذا إن شاء اعترف، ولم يجز اعترافه بالتهديد" [23] .

        المذهب الثاني: ذهب بعض الحنفية، وبعض المالكية، وابن القيم من الحنابلة إلى قبول الإقرار ولو كان نتيجة إكراه بالضرب أو بالسجن ونحوهما إذا كان المتهم معروفا بالفجور كالسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك.

        سئـل سفيـان عن المحنة أن يأخـذ السـلطان الرجـل فيمتحنه فيقول: فعـلت كـذا، وفعـلت كذا، فلا يزال به حتى يستنـطقـه ؟ قال: نعم. [ ص: 125 ] لـيـس ذلك بشـيء عنـدي، فـإذا اعتـرف أخـذ به، وليـس ينبـغي لهم أن يفعلوا [24] .

        قال الطـرابلسي: "إذا رفـع للقاضي رجل يعرف بالسرقة والدعارة، فادعى عليه بذلك رجل فحبـسه لاختبار ذلك فأقر في السجن بما ادعى عليه من ذلك فذلك يلزمه, وهـذا الحبس خارج عن الإكراه. قال في شرح التجريد في مثله: وإن خـوفه بضـرب سـوط أو حبس يوم حتى يقر فليس هذا بإكراه" [25] .

        وقال ابن القيم: "وأما ضرب المتهم إذا عرف أن المال عنده -وقد كتمه وأنكره- فيضرب ليقر به. فهذا لا ريب فيه. فإنه ضرب ليؤدي الواجب الذي يقدر على وفائه" [26] .

        ونـقل ميارة، "عن سـحـنـون: وإذا رفع للقـاضي رجـل يعرف بالسرقة والدعـارة وادعى ذلك عليه رجل فحبسه لاختبار ذلك فأقر في السجن بما ادعـي عليه من ذلك فذلك يلزمه وهـذا الحبـس خـارج من الإكراه" [27] . [ ص: 126 ]

        واستدلوا بما يأتي:

        أولا: روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يـجلو منها ولهـم ما حمـلت ركابـهم، ولرسـول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلـوا فلا ذمة لهم ولا عهد؛ فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير ؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب ؟ فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك! فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة فقال: قد رأيت حييا يطوف في خـربة ههنا، فذهبوا وطافوا فوجـدوا المسـك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني حقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبـى رسـول الله صلى الله عليه وسلم نسـاءهـم وذراريهم، وقـسـم أموالـهـم بالنـكث الذي نكثوا ) [28] .

        يناقش: بأنها واقعة عين لا عموم لها؛ لورودها في زمن الحرب.

        ثانيا: روي عن الحسن بن زياد أن بعض الأمراء بعث إليه, وسأله عن ضرب السارق ليقر, فقال ما لم يقطع اللحم أو يبين العظم, ثم ندم على [ ص: 127 ] مقالته, وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك, فوجده قد ضربه حتى اعترف, وجاء بالمال, فلما رأى المال موضوعا بين يدي الأمير قال: ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا" [29] .

        يناقش: إن الحسن بن زياد، قد ندم، وندمه يدل على أنه فعل ما لا يجوز، ومن ثم صرح بأنه ظلم، والظلم لا يحل.

        ثالثا: أمر القاضي سحنون بضرب القاضي ابن أبي الجواد بتهمة خيانة الأمانة، نقل الونشريسي: "عن أصبغ: فيمن كان معروفا بالشر والسرقة يسجن أبدا وهو الصواب. وكان سحنون يضرب ابن أبي الجواد القاضي ويعيده في السجن، وكان عنده أموال اليتامى وادعى غير مقبول" [30] .

        نوقش بما يأتي:

        أولا: هذه الرواية غير ثابتة، يدل على ذلك ما ذكره الونشريسي حيث قال: "وأجاب بعضهم وأظنه الشيخ ابن عبد السلام، بأن هذا إنما هو من حكاية ابن الرقيق المؤرخ، وهو ليس بثقة؛ لأنه كان شـارب خمر متخلف فلا يقبل خبره. والحكاية وإن ذكرها بعض مؤرخي الأندلس فلعله نقلها من ابن الرقيق" [31] . [ ص: 128 ]

        القول الراجح: هو ما ذهب إليه جمـهـور الفـقـهـاء الـقـائـلـيـن بمنع إكراه المتهمـين وبطـلان إقـرارهم؛ ولـذا كان على جـهات التحقيق بذل الـوسـع للوصـول للحقيـقة بعيدا عن الإكراه، وذلك سـدا للذريـعـة حـتى لا تنتـهك حرمات الناس وتقيد حرياتهم في مراكز التحقيق ونـحوها باسم الدين والقانون.

        كما أن ألـم التعدي من المحقق قد يكره البريء على الإقرار بما ادعي عليه فيحكم عليه بما أقر، وفي ذلك فساد ظاهر؛ ولذا كان الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة. روت عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ) [32] .

        كما روي عن إبراهيم بن ميسـرة، أن رجـلا كان مع قـوم يتهمـون بـهـوى فأصبـح يـوما قـتـيلا فاتـهم به رجل من القـوم فأرسل له عمر بن عبد العزيز وأمـر بالسيـاط فـقال الرجـل: "أيـها المسـلمون، إني والله ما قتلتـه، وإن جلـدني لأعترفن" فأمـر به عمر فاستـحلف وخلى سبيله. [ ص: 129 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية