تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي جعل طائفة من المصطفين لوراثة النبوة والكتاب من يحمل علم النبوة الصحيح، ويتمثله في سلوكه، وينقله عبر الأجيال، يجدده ويحميه وينفي عنه نوابت السوء ونزغات الضلال:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32 ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (فاطر:32) ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين ) (أخرجه البيهقي).
فلقد اختار الله من ورثة النبوة والكتاب من يمتد بهذا الإرث الإنساني الخالد، يكتشف أبعادا جديدة وفضاءات كبيرة لخلود الرسالة الخاتمة، وقدرتها على الإنتاج والعطاء والإجابة عن أسئلة الإنسان وقضايا العصر في كل زمان ومكان، فيكون قادرا على الإبداع والاجتهاد والتجديد ومعاودة النهوض واسترداد الخيرية التي تفتقدها الإنسانية.
والصلاة والسلام على من علمنا الكتاب والحكمة:
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2 ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) ، وأنقذنا من الضلال
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2 ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) ، الذي وضعنا على الجادة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا ضال.
[ ص: 5 ]
وقد يكون من الأمور البينة أن الرسالة الخاتمة ناطت تجديد الدين وتوليد الأحكام وتنـزيل النص الديني على واقع الناس بالعقل، كما ناطت بالعقل الاجتهاد والامتداد بقيم الوحي، وتصويب الانحراف وبيان التحريف بعد ختم النبوة وتوقف التصويب من السماء، كما ناطت بالعقل معاودة النظر في عطاء الوحي إليها والاستنباط منه بنظرات ومناهج ووسائل وأدوات واجتهادات جديدة، قادرة على تحقيق الخلود والكشف عن معالم الطريق السوي الموصل سعادة الدنيا والآخرة، والإجابة عن إشكالات الحياة وأسئلة الإنسان في كل عصر، بكل استحقاقاته، ذلك أن الاكتفاء بالنظر إلى قيم الوحي والتعامل معها من خلال أدوات ووسائل ومناهج العصور السابقة وحدها قد لا يحقق من الكشف والإبداع وتوليد الأحكام القادرة على الاستجابة لمشكلات العصر الحاضر وتقديم الحلول الناجعة لها إلا القليل؛ لأنها ثمرة عصرها بكل مكوناته واستطاعاته ومشكلاته.
لذلك نرى أنه لا بد من استيعاب الوسائل والأدوات السابقة واستصحابها وعدم القفز من فوقها، والانطلاق منها إلى إبداع وسائل وأدوات جديدة للنظر والاكتشاف تتأتى من خلال حاجات كل زمان ومكان وإشكالاته، وعدم الجمود والاكتفاء بالأدوات القديمة نفسها؛ إن صوابية المناهج والوسائل والأدوات السابقة في الإجابة عن مشكلات زمانها لا تعني بالضرورة صوابيتها ونجاعتها لكل زمان ومكان، الأمر الذي يتناقض ويتعارض بطبيعته مع ختم النبوة وخلود النص الديني، ويؤدي إلى محاصرته، ويجعل قيم الوحي في الكتاب والسنة مقتصرة على زمن وتاريخ معين.
وسوف لا يكون لمدلول التجديد المطلوب شرعا من الأمة، أفرادا وجماعات، أي معنى إذا كانت أبعاده تقتصر على الدوران في عقول السابقين
[ ص: 6 ] واستخدام أدواتهم في النظر والاجتهاد وإعادة إنتاج ما أنتجوه باسم التجديد، الأمر الذي سوف يؤدي بالأمة إلى الانكفاء والخروج من العصر والعجز عن الإجابة عن أسئلة الحياة ومعالجة قضياها وافتقاد دليل التعامل معها، مهما ادعينا الاجتهاد والتجديد وأهمية تنـزيل قيم الوحي على واقع الناس، ذلك أن التجديد يعني، من بعض الوجوه، تحقيق الخلود لنصوص الوحي بتنـزيلها على واقع الناس، وذلك لا يتحقق إلا في إبداع الوسائل وأدوات النظر في ضوء واقع العصر وإشكالاته ومعطياته وما وفرت العلوم والمعارف من فضاءات ثقافية وحقائق علمية وآفاق فكرية ومناهج معرفية وتبادل ثقافي وتواصل حضاري، حيث لا بد من تصحيح المعادلة الصعبة وهي التحول من الدوران والتفكير بعقول السابقين إلى التفكير بكيفية استيعابهم، ومن ثم التفكير بعقولنا: كيف نفيد منهم لحاضرنا ومستقبلنا؟
لذلك نعاود القول: إن قولة الرسول صلى الله عليه وسلم :
( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينه ) (أخرجه أبو داود) ، تدعو لكثير من التأمل والتعمق في أبعاد مهمة التجديد، الذي لا يقتصر على كونه إخبار الصادق المصدوق وإنما هو تحديد للمسؤولية والتكليف المنوط بورثة النبوة والكتاب من العلماء العظام، الذين يرسمون الطريق، ويضعون المنهج، ويبصرون العصر، ويطورون آلات ووسائل النظر والاجتهاد القادرة على الاستنباط لاستحقاقات الحياة المتطورة المتغيرة.
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثاني والأربعون بعد المائة: "منهج النظر المعرفي بين أصول الفقه والتاريخ.. الشاطبي وابن خلدون أنموذجا" للدكتور الحسان شهيد،
[ ص: 7 ] في سلسـلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في سعيها الدائب للبناء الحضاري، واسترداد خيرية الأمة، والدعوة إلى السير في الأرض والتوغل في التاريخ، وإحياء المنهج السنني لإبصار عوامل السقوط والنهوض في حضارات الأمم استجابة لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=137 ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين *
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138) ، لتحقيق الاعتبار، والعودة من رحلة السير بالتبين لعوامل السقوط والنهوض، والاهتداء إلى الطرق والمناهج السليمة، الموصلة إلى الهدف وأطر الناس عليها وإغرائهم بها، وتحقيق الاتعاظ وعدم الوقوع بما وقعت به الأمم السابقة، فسنن الله جارية في جميع الأمم، لا تحابي أحدا
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=43 ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43).
ونعتقد أن من الأمور الأساس في مسيرة النهوض وإعادة البناء إدراك أهمية التمييز بين السنن الجارية التي تعبد الله الناس باكتشافها وكيفية تسخيرها والسنن الخارقة الخارجة عن فعل الإنسان وطاقاته وتكليفه، والوقوف طويلا أمام فترات التألق والإنجاز والتجديد في تاريخنا الحضاري، التي تحققت من خلال عزمات البشر والسنن الجارية في الحياة والأحياء، والتأمل في أبعادها، وتحقيق الاعتبار بالتجارب التاريخية، على مستوى (الذات) و (الآخر )، والإفادة منها، واستصحابها للعبور من الماضي لإبصار الحاضر واستشراف المستقبل، والعمل على تجميع طاقات الأمة، وتبصيرها بالتحديات، والتحول من حالة العجز والاستكانة وردود الفعل إلى الاستيعاب، واستشعار التحدي، وإعادة
[ ص: 8 ] بناء الذات، والإفادة من التجربة الحضارية التاريخية، والعمل على اكتشاف سنن النهوض، واستكمال عوامله، ودراسة الاستطاعات المتوفرة والإمكانات الموجودة وكيفية توظيفها في عملية النهوض والبناء، وامتلاك القدرة على التجاوز بعيدا عن المجازفات والحماسات والادعاءات والاكتفاء بالفخر التاريخي لمعالجة مركب النقص والعجز الحالي.
ونرى أولا وقبل كل شيء العمل على توفير المناخ وبناء الشاكلة الثقافية الحاضنة للنفرة البحثية والتحقق بشعب المعرفة المتنوعة، التي باتت تشكل اليوم الحواس الضرورية المطلوبة للعقل الجمعي للأمة، وإعادة تركيب مؤسساتها من الخبراء والعلماء المتخصصين في محاولة لإناطة المهام الاجتماعية والعلمية والمعرفية بأهلها وخبرائها من أهل الحل والعقد، ولكل قضية أهل حلها وعقدها بحسـب نوعيتها، والتـوقف عن الاستـمرار في تضييع الأمـانة، الذي يعني -فيما يعني- إيكال الأمور لغير أهلها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فضياع الأمانة مؤذن بغياب الإنجاز وفساد الأحوال وخراب العمران واقتراب الساعة.
والأمر الذي يتطلب الكثير من التفكير والمثاقفة والمناقشة والمحاورة وحتى المماحكة يتمثل، من وجهة نظرنا، في كيفية دراسة حركات التغيير والنهوض وأعلام التغيير، الذين شكلوا منعطفات كبيرة في حياة الأمة وتعديل مسارها، سواء على مستوى (الذات) الحضارية التاريخية أولا، ثم على مستوى (الآخر)؛ لأن السنن الاجتماعية الحاكمة للاجتماع البشري السارية في حركة الأمم هي واحدة، وإلا لما طلبت النبوة الخاتمة السير في الأرض والتعرف على تاريخ الأمم وعلل سقوط ونهوض الحضارات، ولما كان هناك داع للقصص القرآني والإطلاع على مسيرة النبوة التاريخية، وتجاربها وعطائها وكيفية تعاملها مع مختلف الظروف والشعوب والعصور والأحوال، ولاكتفي بالرسالة الخاتمة وحضارة (الذات).
[ ص: 9 ]
والذي نود الإشارة إليه والتأكيد عليه أن دراسة حركات التغيير وتحديد جوانب إخفاقها وفشلها وجوانب نجاحها بنفس المناهج والوسائل والأدوات التقليدية وعدم الإفادة من التقدم في العلوم والمعارف المعاصرة سوف يعيد الإنتاج السابق في هذا المجال، ولا يأذن بتحرك إلى الأمام، ولو قيد أنملة، ونحن نحسب أننا ندرس ونجتهد ونحسن صنعا .
وفي تقديري أن فترات التألق والإنجاز والمنعطفات الكبرى في تاريخنا الحضاري لم تتحقق بالتقليد الجماعي وتطبيق نفس القوالب والمناهج والأدوات والخضوع للإيقاع نفسه، وإنما جاءت برؤية جديدة متجددة أخذت باعتبارها استصحاب الماضي وأدواته وإبصار الحاضر ومشكلاته، ودراسة الاستطاعات وكيفية تسخيرها، وإبداع أدوات جديدة للتعامل مع القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، وكيفية تنـزيلها على واقع الناس، بحسب استطاعاتهم، وهذا هو القانون الطبيعي للحياة والأحياء ومنطق تسخير السنن الإلهية الحاكمة لمسيرتها، وإلا لكانت الحياة بكل تداعياتها وتطوراتها نسخا مكررة، تلغي العقل وتعطل الفاعلية وتحجر الإنسان وتوقف التنمية.
نعاود القول: إن دراسة حركات التغيير والنهوض وحتى أسباب الركود والعطالة بالوسائل والأدوات نفسها سوف لا يفيد شيئا، وإنما لا بد من دراستها في ضوء معطيات العصر ومعارفه وعلومه ومناهجه وبرامجه.
ولعلنا نقول: إن رواد الإصلاح والنهوض لو لم يأتوا بجديد، كثمرة لإبصار وسائل وآفاق وأبعاد وأدوات نظر جديدة، لما ظهروا ولا أثروا وأثروا، ولما تحقق لهم ما تحقق، ولكانوا أفرادا عاديين مغمورين في مسيرة الحياة والخضوع لإيقاعها الرتيب، مثلهم مثل سائر أفراد المجتمع.
[ ص: 10 ]
وقد يكون من الخطورة بمكان، أثناء دراسة حركات التغيير والإصلاح وأعلام النهوض، تعطيل الإفادة منهم، وذلك بشدهم إلى الوراء ومحاولة قولبتهم في الرؤى وأدوات النظر السـابقة الجاهزة، سواء من منطلق الفرق والمذاهب أو على مستوى المناهج وأدوات النظر؛ تلك الفرق والمذاهب والفلسفات التي لم يعد لها وجود عملي وإنما باتت تقتصر على القيمة التاريخية.
ونحن هنا لا ندعو للقطيعة مع المناهج والوسائل والأدوات السابقة للنظر في النصوص الشرعية والقضايا الاجتماعية، وإنما نعني استيعابها ومحاولة تطويرها وتجديدها لتكون في مستوى العصر، بحيث تكون قادرة على الإفادة من المعطيات المعرفية بشعب المعرفة جميعا، وإغناء حاجة الأمة، فهي في نهاية المطاف ليست معصومة ولا مقدسة؛ فإذا كان التنـزيل للنص على الواقع، وتحرير النص مما لحق به من نوابت السوء وصور التدين المغشوش، واختيار كيفية التعامل معه تكليفا شرعيا فإن النظر في الأدوات والوسائل التي تخدم ذلك والعمل على تجديدها وحتى استبدالها هو الطريق إلى التجديد، وإلا كان التجديد دعوة بلا دليل.
وقد يكون من المحزن حقا أن تعود إلينا قراءة تراثنا ودراسته وتحليله والإشارة إلى بعض آفاقه من (الآخر)، وأن يكون بما يمتلك من أدوات الأقدر على اكتشاف كنوز هذا التراث، والإفادة منها، والبناء عليها، وتحقيق قفزات نوعية تختزل الزمان وتسهم بارتقائه، علميا وحضاريا، وتبصره بكيفية التعامل معنا ونحن غافلون، وحتى إذا ما تبناها وأشاد بها وبسبقها كان ذلك مدعاة فخر لكن ذلك لا يصنع إلا مزيدا من الوهم، وليس التحريض على الفهم والاجتهاد والتوليد والامتداد.
[ ص: 11 ]
فابن خلدون مثلا، الذي يعتبر أحد رواد التحليل والتأصيل والتأسيس لمناهج وأدوات النظر التاريخي بقي مجهولا عندنا لقرون عديدة تقريبا، من القرن السابع الهجري إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وذلك عندما وجد فيه (الآخر) المعجم الثري، فهو صاحب رؤى دقيقة وصائبة في التأسيس والتأصيل لعلم الاجتماع والعمران والتاريخ والاقتصاد والسياسة والحكم.
والتاريخ كما هو معلوم يعتبر أب العلوم الاجتماعية، حيث لا تزال "المقدمة" حتى هذا اليوم محل دراسة وتحليل واستنتاج وسبق لكثير من العلوم الاجتماعية والحضارية والإنسانية، حتى ليمـكن القول: إنه لولا (الآخر) لذهب ابن خلدون وغاب في بطون التاريخ وطواه الزمن مع من طوى، دون أن نتنبه إليه!
وإذا ما أدركنا عظمة هؤلاء الرجال العظام فقد أدركناها من خلال أدوات (الآخر) في التحليل والدراسة والاستنتاج، وبقينا عاجزين عن تطويرها والامتداد بها وإمكانية تطبيق تلك المناهج وتنقيتها من خلال قيمنا والإتيان بمثال تطبيقي آخر؛ فلقد توقف ابن خلدون عندنا عند حدود قراءة (الآخر).
ويبقى السؤال الكبير: هل تنبهنا إلى ابن خلدون عمليا وواقعيا، وأخذ منهجه طريقه إلى جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا ومؤسساتنا الثقافية بشكل عام؟
وما قدمه الباحثون والمفكرون من أطروحات ودراسـات حول نظرية ابن خلدون في الاجتماع والاقتصاد والعمران لا يخرج بعمومه عن كونه الترجمة العربية لأعمال الآخرين، وليت أصحاب هذه الترجمات والأطروحات استطاعوا أن يستخدموا أبجديتها في تقديم أية رؤية مقنعة قادرة على التغيير الاجتماعي والانتقال بالأمة إلى آفاق جديدة أو التقدم بها خطوة واحـدة، وإنما بقيت ضمن معطيات (الآخر) لكن بلسان عربي غير مبين أيضا لا يلبث أن تتكشف عورته وادعاؤه بل وسرقاته.
[ ص: 12 ]
لقد لفت (الآخر) النظر إلى كنوز في تراثنا المعطل، الذي لا يخرج عندنا عن نطاق المفاخرة به، والعجز عن الامتداد بمعطياته، والبناء عليها.. والحقيقة أن لفت النظر المتأتي من (الآخر) لم يغير الكثير من حالنا الثقافية والتخلفية؛ نعم، أقيمت مراكز ابن خلدون، وقدمت أطروحات للدكتوراه والماجستير في الجامعات عن ابن خلدون، لكنها مع الأسف لم تخرج عن كونها أوراقا امتحانية تناولت الموضوع إما من خلال الأدوات والوسائل القديمة نفسها، بعيداعن المعطيات المعرفية والعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، وإما من خلال وسائل وأدوات (الآخر)، فجاء العمل مكررا يتسم بمعـاودة الإنتاج؛ وأما الانطباع بمنهجه ونظريته والامتداد بها والقراءة للواقع من خلال أبجدياتها، والخلوص إلى نتائج تشكل رافعة حضارية ووسيلة تغييرية، وتدريب الأجيال على الامتداد بذلك؛ فالنتائج في هذا المجال محزنة.
وقد لا نرى كبير فارق بين من درس ابن خلدون ومن لم يدرسه من حيث الإفادة من منهجه، والعمل والتعامل مع الواقع في الحكم على الأمور المختلفة.
وتلك حالة ثقافية تخلفية تشكل وباء اجتماعيا تتوارثه الأجيال، لا يقتصر أثرها على رائد أو عالم أو حركة تغيير أو شعبة معرفية أو علم من العـلوم وإنما هي مناخ يحكم مواقعنا الثقافية والعلمية فيتركنا: لا نحن بمستـوى تراثنا ولا بمستوى عصرنا، فعمليات الإسقاط، وتوزيع الألقاب، والامتداد المذهبي والطائفي، والامتداد بمقولات الفرق والملل والنحل وتعميم توجهاتها على الواقع بأحداثه وأشخاصه، وقولبة الكثير من العلماء والمفكرين بالقوالب السابقة، التي كانت لها ظروفها وأسبابها ومناخها وتداعياتها وردود أفعـالها، ولم يبق لها إلا القيمة التاريخية، التي قد تكون سلبية في كثير من الأحيان يجب
[ ص: 13 ] تجنبها، ومحاولة التصيد والانتقاء لبعض المقولات والأفكار هنا وهناك لإثبات ذلك، هي بضاعة الكسالى والعاجزين ولا تكلف شيئا.
إن توزيع الألقاب والاتهامات والحكم المبتسر والمجازفات الثقافية والفكرية، فهذا أشعري وذاك معتزلي أو خارجي، فيه الكثير من التيبس والتراجع وعدم الاستيعاب والعجز عن إبداع وسائل للنظر مناسبة لموضوع البحث، والعطالة الثقافية، والوقوع في حفر الماضي، وعدم القدرة على تجاوزها.
لقد قرئ تاريخنا وتراثنا العلمي والثقافي وأعلامنا ورواد الإصلاح في حضارتنا، بل نقول أكثر من ذلك: قرئت قيمنا المتأتية من الوحي، المبينة من الرسول صلى الله عليه وسلم بأبجدية قومية ويسارية وماركسية وعلمانية.... إلخ، وحاول الجميع شد التراث والتاريخ الحضاري إلى جانبه، لتوفير الشرعية الثقافية والسياسية لحركته وحزبه واتجاهه، بحيث يشكل له ذلك مناخ قبول وانتشار؛ أما نحن وعلى الرغم من التطور الكبير في العلم والمعرفة ووسائل الحصول على المعلومة وأدوات فحصها واختبارها مازلنا نرابط عند الدراسات والأقوال السابقة بكل أدواتها ووسائلها، ونخاف من أية قراءة أو اجتهاد أو تجديد، وإن تمت بعض المحاولات فلابد، إيثارا للسلامة والخوف من الخطأ، من أن ننسب الرأي للسابقين، لنختبئ وراءهم، ونهرب من المسؤولية، وكأن الخطأ في الاجتهاد جريمة، والتقليد والعجز والقعود وتعطيل التفكير فضيلة ومكرمة (!) حيث لا فضل ولا إضافة ولا كرم ولا عطاء(!) وهكذا يستمر الحال في مجتمع التخلف، فهو نهب مستباح، تقرأ الأمور فيه في معظم الأحوال بأبجديات خاطئة ومخطئة.
ولا شك عندي أن التحول إلى دراسة حركات الإصلاح والتغيير والنهوض يعتبر من بشائر الخير وبصائر المستقبل، كما أن دراسة حياة ومناهج وأدوات
[ ص: 14 ] رواد التغيير والنهوض والإصلاح يعتبر على الأقل مؤشرا على التململ والقلق السوي من الحال التي نحن عليها، لكن تبقى المشكلة بمناهج الدراسة وأدواتها والمعيار التي يحدد الجوانب الإيجابية والسلبية في سيرة ومسيرة الرواد وجوانب النجاح والإخفاق في حركات الإصلاح والتغيير، والقدرة على تنـزيل ذلك على الواقع لإبصاره من كل الجوانب، وتحديد إمكان النهوض به وكيفية تنميته.
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن دراسة حركات التغيير والإصلاح وفترات التألق والإنجاز الحضاري، وفترات الانحسار والتقهقر والتراجع الحضاري وإبصارها من كل جوانبها، والخلوص إلى عبر ونتائج تحرك الواقع وترتقي به، وتبصر المستقبل وتعد له، وتتوقع المخاطر الممكنة وتخطط لتجنبها وكيفية إدارة الأزمات والتخفيف من آثارها حال وقوعها، يتطلب أكثر من فريق عمل متخصص بشعب المعرفة جميعا، أو إلى مراكز دراسات وبحوث يعمل بها فرقاء عمل، لكل تخصصه، حتى يتم النظر من الزوايا جميعا، وتتم الإحاطة بعلم القضية المطروحة، ويطمأن إلى النتائج والمخرجات أو المعطيات؛ لأن الفرد بعلمه المحدود وعمره المحدود أعجز من أن يحيط بذلك كله، ويحكم عليه بحكم سليم صحيح.
إن القراءات الفردية وغير المتخصصة والمقلدة للمنهج والأداة والوسيلة، المتجاهلة لتقدم العلوم والمعارف الإنسانية سوف تؤدي إلى نتائج قاصرة ومبتسرة، وليس ذلك فقط وإنما تؤدي أيضا إلى محاصرة تلك الحركات ورواد الإصلاح، وقراءتها بأبجدية مختلفة، وبذلك تساهم بحالة الركود والتوقف وعدم الإفادة من العطاء المأمول لهذه الحركات، وتحويلها لتصبح لونا آخر من ألوان تخلف المجتمع.
وفي تقديري أن المطلوب اليوم، بعد هذا التقدم الهائل في العلوم والمعارف والتواصل العالمي في المعرفة وتيسير الوصول إليها هو إعادة النظر في أدواتنا
[ ص: 15 ] ووسائلنا في النظر إلى موروثنا وواقعنا، وبناء العقل الناقد الذي يعرض كل شيء للدراسة والتحليل والنقد والتقويم، متسلحا أولا وقبل كل شيء بقيم الوحي كدليل عمل ومعيار تقويم ونقد وبوصلة اتجاه، وثانيا بالعلوم والمعارف المتنوعة المتوفرة، وليس ذلك فقط وإنما إحياء المنهج السنني، والتعرف على السنن الإلهية في الأنفس والآفاق، والسير في الأرض، والتوغل في التاريخ، الذي يشكل مختبر العقل الإنساني ومصدر المعرفة لهذه السنن والقوانين وتوفير العبرة؛ ومن ثم تقديم دراسات معمقة ومحيطة عن حركات التغيير ورواد الإصلاح والنهوض كنماذج اقتداء وإغناء تجربة، وتوفير المناخ الحاضن لهذه الدراسات، وكسر حاجز التقليد الجماعي والخوف من الاجتهاد والنقد والتجديد، الذي يعني قراءة النص من خلال أدوات ومعارف الواقع، مع استصحاب الاجتهادات وأدوات النظر السابقة، فإذا لم ندرك ذلك فسوف يستمر الضرب على الحديد البارد، وتستمر حالة الاستنقاع الثقافي والتلقي عن (الآخر)، الذي كان أقرأ لتراثنا منا؛ ونخشى والحالة هذه أن يضيع العمر والأجر معا.
وهذا الكتاب يفتح النافذة على سيرة ومنهج رائدين من رواد التأسيس والتأصيل والمنهجية العلمية وتحقيق النقلة النوعية في أصول النظر وأدواته ومناهجه، كانا من عطاء القرن السابع، الذي يعتبر بحق عصر التجديد والعطاء في الفقه والأصول والتاريخ والاجتماع والعمران، بعد قرنين من الركود والتوقف تقريبا على تأسيس العلوم الإسلامية وتأصيلها، فابن تيمية، رحمه الله، في الجهاد والاجتهاد وتنـزيل نصوص الوحي على الواقع، وتجسيدها في حياة الناس، والفتاوى الشجاعة في معظم ميادين الحياة، التي فتحت الطريق أمام عمليات النقد والمراجعة والتقويم لجدوى كثير من الفتاوى في مجال الأسرة والدولة والمجتمع.
[ ص: 16 ]
ومقاصد الشريعة للإمام الشاطبي، رحمه الله، الذي استقرأ من خلالها خطاب التكليف في الفعل والكف وانتهى إلى تحديد الأهداف والغايات الكبرى، التي من أجلها جاءت النبوة، وربط الفروع الفقهية بكلياتها، وجعل لهذه الكليات مراتب من الضروريات والكماليات والتحسينات، ورأى أن الشريعة بكل تعاليمها إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، وأن هذه المصالح لا تتحقق إلا بحماية وحفظ الكليات الخمس بعد هذا الغرق في الجزئيات والفروع الفقهية، التي افتقدت النظرة الكلية الشاملة، فشكل نقلة نوعية في المنهج وأدوات النظر ما تزال دون سوية الإفادة المطلوبة منها.
وفي مجال التاريخ أو العلوم الاجتماعية والاقتصـاد والعمران تأتي ريادة ابن خلدون، رحمه الله، الذي جعل دراسة التاريخ والنظر في حوادثه وأخباره وتحليلها واختبارها ونقدها وتقويمها علما قائما بذاته، فأخرج الدراسة التاريخية من طور السرد والتلقي إلى النقد وإعمال النظر والعقل والقبول والرد، مستلهما في ذلك مناهج من سبقه من علماء الحديث في نقد الإسناد والأخبار وتأسيس علم الجرح والتعديل.
ونستطيع القول: إن هؤلاء الأعلام العظام، وغيرهم كثير ممن لم نكتشفهم في مواريثنا الثقافية، لم يأخذوا حقهم من الدراسة والبحث والخلوص إلى اكتشاف طريق النهوض على الأصعدة المتعددة، حيث ما نزال نعاني من العجز عن أن نكون في مستوى ميراثنا العلمي والثقافي وعصرنا بكل وسائله وأدواته المعرفية، حتى يمكن القول: إننا تنبهنا إلى أهمية هؤلاء الرواد من اكتشاف (الآخر)، أما نحن فما نزال نبدي ونعيد بما وصل إليه (الآخر)، ويستمر عجزنا عن التوليد والتجديد.
[ ص: 17 ]
وتبقى الخطورة أن نستمر في المراوحة في أمكنتنا، نجتر تاريخنا الثقافي دون أن نتمثله، ونكتفي ونجمد على قوالب ووسائل ومناهج النظر السابقة، دون الإفادة من تطور العلوم والمعارف وأدوات التواصل والاتصال في تجديد هذه الوسائل والأدوات لقراءة النص الشرعي وكيفيات تنـزيله على واقع الناس المختلف والمتطور.
فالريادة والنهوض تعني -فيما تعني- اكتشاف آفاق وأبعاد جديدة لخلود النص الشرعي وتطور المجتمعات، واستعمال أدوات جديدة في النظر والبحث تفيد من معطيات العصر وعلومه، وتكون قادرة على استصحاب الماضي والإفادة من عبره وعدم التقولب في مذاهبه ومناهجه وفرقه وطرقه.
إن دراسة حركات التغيير والإصلاح بنفس الوسائل والأدوات السابقة سوف لا تقدم شيئا، وأن محاولة قولبة المفكرين والعلماء بالقوالب التاريخية نفسها، وإسقاط الألقاب التي كانت لها دلالاتها في حينها، واستخدام أدوات النظر نفسها سوف لا يحقق جديدا ولا تجديدا، وإنما يكرس حالة التخلف والاستنقاع الحضاري، ويجعل (الآخر) أعلم بتاريخنا ومواريثنا الثقافية منا،ويبقينا في موقع التلقي والعجز عن النهوض من خلال قيمنا ومواريثنا الثقافية.
ولعل في تقديم هذه النماذج المضيئة في تاريخنا الثقافي والمعرفي، التي انعتقت من مناخ الركود والتخـلف، الذي كان سـائدا، وحققت الريادة، ما يشكل بصيرة أمل، ويدلل على أن التخلف ليس قدرا محتوما على هذه الأمة لا يمكن مغالبته، وأن إمكان النهوض متوفر في قيم الوحي والتجربة الحضارية التاريخية والنماذج الممتدة، التي قد تضيق وقد تتسع لكنها لم تنقطع .
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 18 ]
تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي جعل طائفة من المصطَفين لوراثة النبوة والكتاب مَن يحمل علم النبوة الصحيح، ويتمثله في سلوكه، وينقله عبر الأجيال، يجدده ويحميه وينفي عنه نوابت السوء ونزغات الضلال:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32 ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر:32) ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدُولُه، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين ) (أخرجه البيهقي).
فلقد اختار الله من ورثة النبوة والكتاب من يمتد بهذا الإرث الإنساني الخالد، يكتشف أبعادًا جديدة وفضاءات كبيرة لخلود الرسالة الخاتمة، وقدرتها على الإنتاج والعطاء والإجابة عن أسئلة الإنسان وقضايا العصر في كل زمان ومكان، فيكون قادرًا على الإبداع والاجتهاد والتجديد ومعاودة النهوض واسترداد الخيرية التي تفتقدها الإنسانية.
والصلاة والسلام على من علّمنا الكتاب والحكمة:
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2 ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ، وأنقذنا من الضلال
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2 ( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (الجمعة:2) ، الذي وضعنا على الجادة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا ضال.
[ ص: 5 ]
وقد يكون من الأمور البينة أن الرسالة الخاتمة ناطت تجديد الدين وتوليد الأحكام وتنـزيل النص الديني على واقع الناس بالعقل، كما ناطت بالعقل الاجتهاد والامتداد بقيم الوحي، وتصويب الانحراف وبيان التحريف بعد ختم النبوة وتوقف التصويب من السماء، كما ناطت بالعقل معاودة النظر في عطاء الوحي إليها والاستنباط منه بنظرات ومناهج ووسائل وأدوات واجتهادات جديدة، قادرة على تحقيق الخلود والكشف عن معالم الطريق السوي الموصل سعادة الدنيا والآخرة، والإجابة عن إشكالات الحياة وأسئلة الإنسان في كل عصر، بكل استحقاقاته، ذلك أن الاكتفاء بالنظر إلى قيم الوحي والتعامل معها من خلال أدوات ووسائل ومناهج العصور السابقة وحدها قد لا يحقق من الكشف والإبداع وتوليد الأحكام القادرة على الاستجابة لمشكلات العصر الحاضر وتقديم الحلول الناجعة لها إلا القليل؛ لأنها ثمرة عصرها بكل مكوناته واستطاعاته ومشكلاته.
لذلك نرى أنه لا بد من استيعاب الوسائل والأدوات السابقة واستصحابها وعدم القفز من فوقها، والانطلاق منها إلى إبداع وسائل وأدوات جديدة للنظر والاكتشاف تتأتى من خلال حاجات كل زمان ومكان وإشكالاته، وعدم الجمود والاكتفاء بالأدوات القديمة نفسها؛ إن صوابية المناهج والوسائل والأدوات السابقة في الإجابة عن مشكلات زمانها لا تعني بالضرورة صوابيتها ونجاعتها لكل زمان ومكان، الأمر الذي يتناقض ويتعارض بطبيعته مع ختم النبوة وخلود النص الديني، ويؤدي إلى محاصرته، ويجعل قيم الوحي في الكتاب والسنة مقتصرة على زمن وتاريخ معين.
وسوف لا يكون لمدلول التجديد المطلوب شرعًا من الأمة، أفرادًا وجماعات، أي معنى إذا كانت أبعاده تقتصر على الدوران في عقول السابقين
[ ص: 6 ] واستخدام أدواتهم في النظر والاجتهاد وإعادة إنتاج ما أنتجوه باسم التجديد، الأمر الذي سوف يؤدي بالأمة إلى الانكفاء والخروج من العصر والعجز عن الإجابة عن أسئلة الحياة ومعالجة قضياها وافتقاد دليل التعامل معها، مهما ادعينا الاجتهاد والتجديد وأهمية تنـزيل قيم الوحي على واقع الناس، ذلك أن التجديد يعني، من بعض الوجوه، تحقيق الخلود لنصوص الوحي بتنـزيلها على واقع الناس، وذلك لا يتحقق إلا في إبداع الوسائل وأدوات النظر في ضوء واقع العصر وإشكالاته ومعطياته وما وفرت العلوم والمعارف من فضاءات ثقافية وحقائق علمية وآفاق فكرية ومناهج معرفية وتبادل ثقافي وتواصل حضاري، حيث لا بد من تصحيح المعادلة الصعبة وهي التحول من الدوران والتفكير بعقول السابقين إلى التفكير بكيفية استيعابهم، ومن ثم التفكير بعقولنا: كيف نفيد منهم لحاضرنا ومستقبلنا؟
لذلك نعاود القول: إن قولة الرسول صلى الله عليه وسلم :
( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَ ) (أخرجه أبو داود) ، تدعو لكثير من التأمل والتعمق في أبعاد مهمة التجديد، الذي لا يقتصر على كونه إخبار الصادق المصدوق وإنما هو تحديد للمسؤولية والتكليف المنوط بورثة النبوة والكتاب من العلماء العظام، الذين يرسمون الطريق، ويضعون المنهج، ويبصرون العصر، ويطورون آلات ووسائل النظر والاجتهاد القادرة على الاستنباط لاستحقاقات الحياة المتطورة المتغيرة.
وبعد:
فهذا "كتاب الأمة" الثاني والأربعون بعد المائة: "منهج النظر المعرفي بين أصول الفقه والتاريخ.. الشاطبي وابن خلدون أنموذجًا" للدكتور الحسان شهيد،
[ ص: 7 ] في سلسـلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، في سعيها الدائب للبناء الحضاري، واسترداد خيرية الأمة، والدعوة إلى السير في الأرض والتوغل في التاريخ، وإحياء المنهج السنني لإبصار عوامل السقوط والنهوض في حضارات الأمم استجابة لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=137 ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) (آل عمران: 137-138) ، لتحقيق الاعتبار، والعودة من رحلة السير بالتبين لعوامل السقوط والنهوض، والاهتداء إلى الطرق والمناهج السليمة، الموصلة إلى الهدف وأَطْر الناس عليها وإغرائهم بها، وتحقيق الاتعاظ وعدم الوقوع بما وقعت به الأمم السابقة، فسنن الله جارية في جميع الأمم، لا تحابي أحدًا
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=43 ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) (فاطر:43).
ونعتقد أن من الأمور الأساس في مسيرة النهوض وإعادة البناء إدراك أهمية التمييز بين السنن الجارية التي تعبد الله الناس باكتشافها وكيفية تسخيرها والسنن الخارقة الخارجة عن فعل الإنسان وطاقاته وتكليفه، والوقوف طويلًا أمام فترات التألق والإنجاز والتجديد في تاريخنا الحضاري، التي تحققت من خلال عزمات البشر والسنن الجارية في الحياة والأحياء، والتأمل في أبعادها، وتحقيق الاعتبار بالتجارب التاريخية، على مستوى (الذات) و (الآخر )، والإفادة منها، واستصحابها للعبور من الماضي لإبصار الحاضر واستشراف المستقبل، والعمل على تجميع طاقات الأمة، وتبصيرها بالتحديات، والتحول من حالة العجز والاستكانة وردود الفعل إلى الاستيعاب، واستشعار التحدي، وإعادة
[ ص: 8 ] بناء الذات، والإفادة من التجربة الحضارية التاريخية، والعمل على اكتشاف سنن النهوض، واستكمال عوامله، ودراسة الاستطاعات المتوفرة والإمكانات الموجودة وكيفية توظيفها في عملية النهوض والبناء، وامتلاك القدرة على التجاوز بعيدًا عن المجازفات والحماسات والادعاءات والاكتفاء بالفخر التاريخي لمعالجة مركب النقص والعجز الحالي.
ونرى أولًا وقبل كل شيء العمل على توفير المناخ وبناء الشاكلة الثقافية الحاضنة للنفرة البحثية والتحقق بشعب المعرفة المتنوعة، التي باتت تشكل اليوم الحواس الضرورية المطلوبة للعقل الجمعي للأمة، وإعادة تركيب مؤسساتها من الخبراء والعلماء المتخصصين في محاولةٍ لإناطة المهام الاجتماعية والعلمية والمعرفية بأهلها وخبرائها من أهل الحل والعقد، ولكل قضية أهل حلها وعقدها بحسـب نوعيتها، والتـوقف عن الاستـمرار في تضييع الأمـانة، الذي يعني -فيما يعني- إيكال الأمور لغير أهلها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فضياع الأمانة مؤذن بغياب الإنجاز وفساد الأحوال وخراب العمران واقتراب الساعة.
والأمر الذي يتطلب الكثير من التفكير والمثاقفة والمناقشة والمحاورة وحتى المماحكة يتمثل، من وجهة نظرنا، في كيفية دراسة حركات التغيير والنهوض وأعلام التغيير، الذين شكلوا منعطفات كبيرة في حياة الأمة وتعديل مسارها، سواء على مستوى (الذات) الحضارية التاريخية أولًا، ثم على مستوى (الآخر)؛ لأن السنن الاجتماعية الحاكمة للاجتماع البشري السارية في حركة الأمم هي واحدة، وإلا لما طلبت النبوة الخاتمة السير في الأرض والتعرف على تاريخ الأمم وعلل سقوط ونهوض الحضارات، ولما كان هناك داع للقصص القرآني والإطلاع على مسيرة النبوة التاريخية، وتجاربها وعطائها وكيفية تعاملها مع مختلف الظروف والشعوب والعصور والأحوال، ولاكتفي بالرسالة الخاتمة وحضارة (الذات).
[ ص: 9 ]
والذي نود الإشارة إليه والتأكيد عليه أن دراسة حركات التغيير وتحديد جوانب إخفاقها وفشلها وجوانب نجاحها بنفس المناهج والوسائل والأدوات التقليدية وعدم الإفادة من التقدم في العلوم والمعارف المعاصرة سوف يعيد الإنتاج السابق في هذا المجال، ولا يأذن بتحرك إلى الأمام، ولو قيد أُنملة، ونحن نحسب أننا ندرس ونجتهد ونحسن صنعًا .
وفي تقديري أن فترات التألق والإنجاز والمنعطفات الكبرى في تاريخنا الحضاري لم تتحقق بالتقليد الجماعي وتطبيق نفس القوالب والمناهج والأدوات والخضوع للإيقاع نفسه، وإنما جاءت برؤية جديدة متجددة أخذت باعتبارها استصحاب الماضي وأدواته وإبصار الحاضر ومشكلاته، ودراسة الاستطاعات وكيفية تسخيرها، وإبداع أدوات جديدة للتعامل مع القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، وكيفية تنـزيلها على واقع الناس، بحسب استطاعاتهم، وهذا هو القانون الطبيعي للحياة والأحياء ومنطق تسخير السنن الإلهية الحاكمة لمسيرتها، وإلا لكانت الحياة بكل تداعياتها وتطوراتها نسخًا مكررة، تلغي العقل وتعطل الفاعلية وتحجّر الإنسان وتوقف التنمية.
نعاود القول: إن دراسة حركات التغيير والنهوض وحتى أسباب الركود والعطالة بالوسائل والأدوات نفسها سوف لا يفيد شيئًا، وإنما لا بد من دراستها في ضوء معطيات العصر ومعارفه وعلومه ومناهجه وبرامجه.
ولعلنا نقول: إن رواد الإصلاح والنهوض لو لم يأتوا بجديد، كثمرة لإبصار وسائل وآفاق وأبعاد وأدوات نظر جديدة، لما ظهروا ولا أثّروا وأثْروا، ولما تحقق لهم ما تحقق، ولكانوا أفرادًا عاديين مغمورين في مسيرة الحياة والخضوع لإيقاعها الرتيب، مثلهم مثل سائر أفراد المجتمع.
[ ص: 10 ]
وقد يكون من الخطورة بمكان، أثناء دراسة حركات التغيير والإصلاح وأعلام النهوض، تعطيل الإفادة منهم، وذلك بشدهم إلى الوراء ومحاولة قولبتهم في الرؤى وأدوات النظر السـابقة الجاهزة، سواء من منطلق الفرق والمذاهب أو على مستوى المناهج وأدوات النظر؛ تلك الفرق والمذاهب والفلسفات التي لم يعد لها وجود عملي وإنما باتت تقتصر على القيمة التاريخية.
ونحن هنا لا ندعو للقطيعة مع المناهج والوسائل والأدوات السابقة للنظر في النصوص الشرعية والقضايا الاجتماعية، وإنما نعني استيعابها ومحاولة تطويرها وتجديدها لتكون في مستوى العصر، بحيث تكون قادرة على الإفادة من المعطيات المعرفية بشعب المعرفة جميعًا، وإغناء حاجة الأمة، فهي في نهاية المطاف ليست معصومة ولا مقدسة؛ فإذا كان التنـزيل للنص على الواقع، وتحرير النص مما لحق به من نوابت السوء وصور التدين المغشوش، واختيار كيفية التعامل معه تكليفًا شرعيًا فإن النظر في الأدوات والوسائل التي تخدم ذلك والعمل على تجديدها وحتى استبدالها هو الطريق إلى التجديد، وإلا كان التجديد دعوةً بلا دليل.
وقد يكون من المحزن حقًا أن تعود إلينا قراءة تراثنا ودراسته وتحليله والإشارة إلى بعض آفاقه من (الآخر)، وأن يكون بما يمتلك من أدواتٍ الأقدرَ على اكتشاف كنوز هذا التراث، والإفادة منها، والبناء عليها، وتحقيق قفزات نوعية تختزل الزمان وتسهم بارتقائه، علميًا وحضاريًا، وتبصره بكيفية التعامل معنا ونحن غافلون، وحتى إذا ما تبناها وأشاد بها وبسبقها كان ذلك مدعاة فخرٍ لكن ذلك لا يصنع إلا مزيدًا من الوهم، وليس التحريض على الفهم والاجتهاد والتوليد والامتداد.
[ ص: 11 ]
فابن خلدون مثلًا، الذي يعتبر أحد رواد التحليل والتأصيل والتأسيس لمناهج وأدوات النظر التاريخي بقي مجهولًا عندنا لقرون عديدة تقريبًا، من القرن السابع الهجري إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وذلك عندما وجد فيه (الآخر) المعجم الثري، فهو صاحب رؤى دقيقة وصائبة في التأسيس والتأصيل لعلم الاجتماع والعمران والتاريخ والاقتصاد والسياسة والحكم.
والتاريخ كما هو معلوم يعتبر أب العلوم الاجتماعية، حيث لا تزال "المقدمة" حتى هذا اليوم محل دراسة وتحليل واستنتاج وسبقٍ لكثير من العلوم الاجتماعية والحضارية والإنسانية، حتى ليمـكن القول: إنه لولا (الآخر) لذهب ابن خلدون وغاب في بطون التاريخ وطواه الزمن مع من طوى، دون أن نتنبه إليه!
وإذا ما أدركنا عظمة هؤلاء الرجال العظام فقد أدركناها من خلال أدوات (الآخر) في التحليل والدراسة والاستنتاج، وبقينا عاجزين عن تطويرها والامتداد بها وإمكانية تطبيق تلك المناهج وتنقيتها من خلال قيمنا والإتيان بمثال تطبيقي آخر؛ فلقد توقف ابن خلدون عندنا عند حدود قراءة (الآخر).
ويبقى السؤال الكبير: هل تنبهنا إلى ابن خلدون عمليًا وواقعيًا، وأخذ منهجه طريقه إلى جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا ومؤسساتنا الثقافية بشكل عام؟
وما قدمه الباحثون والمفكرون من أطروحات ودراسـات حول نظرية ابن خلدون في الاجتماع والاقتصاد والعمران لا يخرج بعمومه عن كونه الترجمة العربية لأعمال الآخرين، وليت أصحاب هذه الترجمات والأطروحات استطاعوا أن يستخدموا أبجديتها في تقديم أية رؤية مقنعة قادرة على التغيير الاجتماعي والانتقال بالأمة إلى آفاق جديدة أو التقدم بها خطوة واحـدة، وإنما بقيت ضمن معطيات (الآخر) لكن بلسان عربي غير مبين أيضًا لا يلبث أن تتكشف عورته وادعاؤه بل وسرقاته.
[ ص: 12 ]
لقد لفت (الآخر) النظر إلى كنوز في تراثنا المعطل، الذي لا يخرج عندنا عن نطاق المفاخرة به، والعجز عن الامتداد بمعطياته، والبناء عليها.. والحقيقة أن لفت النظر المتأتي من (الآخر) لم يغير الكثير من حالنا الثقافية والتخلفية؛ نعم، أُقيمت مراكز ابن خلدون، وقُدمت أطروحات للدكتوراه والماجستير في الجامعات عن ابن خلدون، لكنها مع الأسف لم تخرج عن كونها أوراقًا امتحانية تناولت الموضوع إما من خلال الأدوات والوسائل القديمة نفسها، بعيدًاعن المعطيات المعرفية والعلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، وإما من خلال وسائل وأدوات (الآخر)، فجاء العمل مكررًا يتسم بمعـاودة الإنتاج؛ وأما الانطباع بمنهجه ونظريته والامتداد بها والقراءة للواقع من خلال أبجدياتها، والخلوص إلى نتائج تشكل رافعة حضارية ووسيلة تغييرية، وتدريب الأجيال على الامتداد بذلك؛ فالنتائج في هذا المجال محزنة.
وقد لا نرى كبير فارق بين من درس ابن خلدون ومن لم يدرسه من حيث الإفادة من منهجه، والعمل والتعامل مع الواقع في الحكم على الأمور المختلفة.
وتلك حالة ثقافية تخلفية تشكل وباءً اجتماعيًا تتوارثه الأجيال، لا يقتصر أثرها على رائد أو عالم أو حركة تغيير أو شعبة معرفية أو علم من العـلوم وإنما هي مناخ يحكم مواقعنا الثقافية والعلمية فيتركنا: لا نحن بمستـوى تراثنا ولا بمستوى عصرنا، فعمليات الإسقاط، وتوزيع الألقاب، والامتداد المذهبي والطائفي، والامتداد بمقولات الفرق والملل والنحل وتعميم توجهاتها على الواقع بأحداثه وأشخاصه، وقولبة الكثير من العلماء والمفكرين بالقوالب السابقة، التي كانت لها ظروفها وأسبابها ومناخها وتداعياتها وردود أفعـالها، ولم يبق لها إلا القيمة التاريخية، التي قد تكون سلبية في كثير من الأحيان يجب
[ ص: 13 ] تجنبها، ومحاولة التصيد والانتقاء لبعض المقولات والأفكار هنا وهناك لإثبات ذلك، هي بضاعة الكسالى والعاجزين ولا تكلف شيئًا.
إن توزيع الألقاب والاتهامات والحكم المبتسر والمجازفات الثقافية والفكرية، فهذا أشعري وذاك معتزلي أو خارجي، فيه الكثير من التيبس والتراجع وعدم الاستيعاب والعجز عن إبداع وسائل للنظر مناسبة لموضوع البحث، والعطالة الثقافية، والوقوع في حفر الماضي، وعدم القدرة على تجاوزها.
لقد قُرئ تاريخنا وتراثنا العلمي والثقافي وأعلامنا ورواد الإصلاح في حضارتنا، بل نقول أكثر من ذلك: قرئت قيمنا المتأتية من الوحي، المُبيّنة من الرسول صلى الله عليه وسلم بأبجدية قومية ويسارية وماركسية وعلمانية.... إلخ، وحاول الجميع شد التراث والتاريخ الحضاري إلى جانبه، لتوفير الشرعية الثقافية والسياسية لحركته وحزبه واتجاهه، بحيث يشكل له ذلك مناخ قبول وانتشار؛ أما نحن وعلى الرغم من التطور الكبير في العلم والمعرفة ووسائل الحصول على المعلومة وأدوات فحصها واختبارها مازلنا نرابط عند الدراسات والأقوال السابقة بكل أدواتها ووسائلها، ونخاف من أية قراءة أو اجتهاد أو تجديد، وإن تمت بعض المحاولات فلابد، إيثارًا للسلامة والخوف من الخطأ، من أن ننسب الرأي للسابقين، لنختبئ وراءهم، ونهرب من المسؤولية، وكأن الخطأ في الاجتهاد جريمة، والتقليد والعجز والقعود وتعطيل التفكير فضيلة ومكرمة (!) حيث لا فضل ولا إضافة ولا كرم ولا عطاء(!) وهكذا يستمر الحال في مجتمع التخلف، فهو نهب مستباح، تُقرأ الأمور فيه في معظم الأحوال بأبجديات خاطئة ومخطئة.
ولا شك عندي أن التحول إلى دراسة حركات الإصلاح والتغيير والنهوض يعتبر من بشائر الخير وبصائر المستقبل، كما أن دراسة حياة ومناهج وأدوات
[ ص: 14 ] رواد التغيير والنهوض والإصلاح يعتبر على الأقل مؤشرًا على التململ والقلق السوي من الحال التي نحن عليها، لكن تبقى المشكلة بمناهج الدراسة وأدواتها والمعيار التي يحدد الجوانب الإيجابية والسلبية في سيرة ومسيرة الرواد وجوانب النجاح والإخفاق في حركات الإصلاح والتغيير، والقدرة على تنـزيل ذلك على الواقع لإبصاره من كل الجوانب، وتحديد إمكان النهوض به وكيفية تنميته.
وقد يكون من المفيد الإشارة إلى أن دراسة حركات التغيير والإصلاح وفترات التألق والإنجاز الحضاري، وفترات الانحسار والتقهقر والتراجع الحضاري وإبصارها من كل جوانبها، والخلوص إلى عبر ونتائج تُحرِّك الواقع وترتقي به، وتبصر المستقبل وتعد له، وتتوقع المخاطر الممكنة وتخطط لتجنبها وكيفية إدارة الأزمات والتخفيف من آثارها حال وقوعها، يتطلب أكثر من فريق عمل متخصص بشعب المعرفة جميعًا، أو إلى مراكز دراسات وبحوث يعمل بها فرقاء عمل، لكلٍ تخصصه، حتى يتم النظر من الزوايا جميعًا، وتتم الإحاطة بعلم القضية المطروحة، ويُطمأن إلى النتائج والمخرجات أو المعطيات؛ لأن الفرد بعلمه المحدود وعمره المحدود أعجز من أن يحيط بذلك كله، ويحكم عليه بحكم سليم صحيح.
إن القراءات الفردية وغير المتخصصة والمقلدة للمنهج والأداة والوسيلة، المتجاهلة لتقدم العلوم والمعارف الإنسانية سوف تؤدي إلى نتائج قاصرة ومبتسرة، وليس ذلك فقط وإنما تؤدي أيضًا إلى محاصرة تلك الحركات ورواد الإصلاح، وقراءتها بأبجدية مختلفة، وبذلك تساهم بحالة الركود والتوقف وعدم الإفادة من العطاء المأمول لهذه الحركات، وتحويلها لتصبح لونًا آخر من ألوان تخلف المجتمع.
وفي تقديري أن المطلوب اليوم، بعد هذا التقدم الهائل في العلوم والمعارف والتواصل العالمي في المعرفة وتيسير الوصول إليها هو إعادة النظر في أدواتنا
[ ص: 15 ] ووسائلنا في النظر إلى موروثنا وواقعنا، وبناء العقل الناقد الذي يعرض كل شيء للدراسة والتحليل والنقد والتقويم، متسلحًا أولًا وقبل كل شيء بقيم الوحي كدليل عمل ومعيار تقويم ونقد وبوصلة اتجاه، وثانيًا بالعلوم والمعارف المتنوعة المتوفرة، وليس ذلك فقط وإنما إحياء المنهج السنني، والتعرف على السنن الإلهية في الأنفس والآفاق، والسير في الأرض، والتوغل في التاريخ، الذي يشكل مختبر العقل الإنساني ومصدر المعرفة لهذه السنن والقوانين وتوفير العبرة؛ ومن ثم تقديم دراسات معمقة ومحيطة عن حركات التغيير ورواد الإصلاح والنهوض كنماذج اقتداء وإغناء تجربة، وتوفير المناخ الحاضن لهذه الدراسات، وكسر حاجز التقليد الجماعي والخوف من الاجتهاد والنقد والتجديد، الذي يعني قراءة النص من خلال أدوات ومعارف الواقع، مع استصحاب الاجتهادات وأدوات النظر السابقة، فإذا لم ندرك ذلك فسوف يستمر الضرب على الحديد البارد، وتستمر حالة الاستنقاع الثقافي والتلقي عن (الآخر)، الذي كان أقرأ لتراثنا منا؛ ونخشى والحالة هذه أن يضيع العمر والأجر معًا.
وهذا الكتاب يفتح النافذة على سيرة ومنهج رائدين من رواد التأسيس والتأصيل والمنهجية العلمية وتحقيق النقلة النوعية في أصول النظر وأدواته ومناهجه، كانا من عطاء القرن السابع، الذي يعتبر بحق عصر التجديد والعطاء في الفقه والأصول والتاريخ والاجتماع والعمران، بعد قرنين من الركود والتوقف تقريبًا على تأسيس العلوم الإسلامية وتأصيلها، فابن تيمية، رحمه الله، في الجهاد والاجتهاد وتنـزيل نصوص الوحي على الواقع، وتجسيدها في حياة الناس، والفتاوى الشجاعة في معظم ميادين الحياة، التي فتحت الطريق أمام عمليات النقد والمراجعة والتقويم لجدوى كثير من الفتاوى في مجال الأسرة والدولة والمجتمع.
[ ص: 16 ]
ومقاصد الشريعة للإمام الشاطبي، رحمه الله، الذي استقرأ من خلالها خطاب التكليف في الفعل والكف وانتهى إلى تحديد الأهداف والغايات الكبرى، التي من أجلها جاءت النبوة، وربط الفروع الفقهية بكلياتها، وجعل لهذه الكليات مراتب من الضروريات والكماليات والتحسينات، ورأى أن الشريعة بكل تعاليمها إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، وأن هذه المصالح لا تتحقق إلا بحماية وحفظ الكليات الخمس بعد هذا الغرق في الجزئيات والفروع الفقهية، التي افتقدت النظرة الكلية الشاملة، فشكل نقلة نوعية في المنهج وأدوات النظر ما تزال دون سوية الإفادة المطلوبة منها.
وفي مجال التاريخ أو العلوم الاجتماعية والاقتصـاد والعمران تأتي ريادة ابن خلدون، رحمه الله، الذي جعل دراسة التاريخ والنظر في حوادثه وأخباره وتحليلها واختبارها ونقدها وتقويمها علمًا قائمًا بذاته، فأخرج الدراسة التاريخية من طور السرد والتلقي إلى النقد وإعمال النظر والعقل والقبول والرد، مستلهمًا في ذلك مناهج من سبقه من علماء الحديث في نقد الإسناد والأخبار وتأسيس علم الجرح والتعديل.
ونستطيع القول: إن هؤلاء الأعلام العظام، وغيرهم كثير ممن لم نكتشفهم في مواريثنا الثقافية، لم يأخذوا حقهم من الدراسة والبحث والخلوص إلى اكتشاف طريق النهوض على الأصعدة المتعددة، حيث ما نزال نعاني من العجز عن أن نكون في مستوى ميراثنا العلمي والثقافي وعصرنا بكل وسائله وأدواته المعرفية، حتى يمكن القول: إننا تنبهنا إلى أهمية هؤلاء الرواد من اكتشاف (الآخر)، أما نحن فما نزال نبدي ونعيد بما وصل إليه (الآخر)، ويستمر عجزنا عن التوليد والتجديد.
[ ص: 17 ]
وتبقى الخطورة أن نستمر في المراوحة في أمكنتنا، نجتر تاريخنا الثقافي دون أن نتمثله، ونكتفي ونجمد على قوالب ووسائل ومناهج النظر السابقة، دون الإفادة من تطور العلوم والمعارف وأدوات التواصل والاتصال في تجديد هذه الوسائل والأدوات لقراءة النص الشرعي وكيفيات تنـزيله على واقع الناس المختلف والمتطور.
فالريادة والنهوض تعني -فيما تعني- اكتشاف آفاق وأبعاد جديدة لخلود النص الشرعي وتطور المجتمعات، واستعمال أدوات جديدة في النظر والبحث تفيد من معطيات العصر وعلومه، وتكون قادرة على استصحاب الماضي والإفادة من عِبَره وعدم التقولب في مذاهبه ومناهجه وفرقه وطرقه.
إن دراسة حركات التغيير والإصلاح بنفس الوسائل والأدوات السابقة سوف لا تقدم شيئًا، وأن محاولة قولبة المفكرين والعلماء بالقوالب التاريخية نفسها، وإسقاط الألقاب التي كانت لها دلالاتها في حينها، واستخدام أدوات النظر نفسها سوف لا يحقق جديدًا ولا تجديدًا، وإنما يكرس حالة التخلف والاستنقاع الحضاري، ويجعل (الآخر) أعلم بتاريخنا ومواريثنا الثقافية منا،ويُبقينا في موقع التلقي والعجز عن النهوض من خلال قيمنا ومواريثنا الثقافية.
ولعل في تقديم هذه النماذج المضيئة في تاريخنا الثقافي والمعرفي، التي انعتقت من مناخ الركود والتخـلف، الذي كان سـائدًا، وحققت الريادة، ما يشكل بصيرة أمل، ويدلل على أن التخلف ليس قدرًا محتومًا على هذه الأمة لا يمكن مغالبته، وأن إمكان النهوض متوفرٌ في قيم الوحي والتجربة الحضارية التاريخية والنماذج الممتدة، التي قد تضيق وقد تتسع لكنها لم تنقطع .
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 18 ]