الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - في أهم القضايا الكلامية:

              1- التحسين والتقبيح: /14

              يجدر التنبيه بداية إلى الانقسام الحاصل في هذه المسألة بين العلماء، فمن سموا بالمعتزلة يحفظ عنهم القول بالتحسين والتقبيح العقليين، واستقلال العقل بالإدراك لمكامن الحسن والقبح في الذوات والأعيان، فالحسن والقبح ذاتيان في الأشياء والأفعال والأحكام من حيث اعتبار العقـل، وهو قادر على التمييز بين الصالح منها والطالح، والعقل عندهم لقدرته النظرية بإمكانه معرفة الحسن والقبح قبل حضـور النص والشرع. ثم إنهم قسموا ذلك إلى ما يستدرك بمحض العقـل، وإلى ما لا يستدرك إلا بانضمام الشرع إليه، كحسن الزكوات، والصلوات وأنواع العبادات، لأن مصالحهما الخفية لا يطلع عليها بالتنبيه العقلي.

              "وما يستدرك بمحض العقل على زعمهم ينقسم إلى:

              المعلوم بضرورة العقل عندهم، كحسن الشكر وإنقاذ الغرقى والهلكى، وكقبح الإيلام ابتداء، أو الكذب الذي لا غرض فيه.

              وإلى المعلوم بالنظر كالكذب الذي يرتبط به غرض" [1] . [ ص: 63 ]

              قال القرافي: "وعند المعتزلة هو عقلي لا يفتقر إلى ورود الشرائع، بل العقل يستقل بثبوته قبل الرسل، وإنما الشرائع مؤكدة لحكم العقل، فيما علمه ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، أو نظرا كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، أو مظهرة لما يعلمه العقل ضرورة ولا نظرا، كصوم آخر يوم من رمضان، وتحريم أول يوم من شوال" [2] .

              وحجتهم في ذلك أن "الزمن الإدراكي" القبلي للعقل معلوم لاستحالة إدراكه، والعلم به في الوقت الإيرادي للشرع ما لم يكن متصورا ومعقولا، يقول الشوكاني: "واحتج المثبتون للتحسـين والتقبيح العقليين بأن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع، لاستحال أن يعلما عند وروده؛ لأنهما إن لم يكونا معلومين قبله، فعند وروده بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع، ولا يتصوره، ذلك محال، فوجب أن يكونا معلومين قبل وروده" [3] .

              أما من سموا بالأشاعرة فهم على خلاف السابقين، فالشرع هو الحاكم على قيم الأشيـاء والأفعـال والأحكام، وصفاتـها، إما بالحسن أو القبح، يقول أبو منصور البغدادي: "اعلموا أن الأمور العقلية يدل عليها العقل قبل ورود الشرع، والأحكام الشرعية لا دليل عليها غير الشرع" [4] ، فلا استقلال [ ص: 64 ] للعقل في إدراك ذلك، وإن توافق معه في إطلاق الحكم، "لأنها ليست مستعدة لأن تحكم دائما حكما صادقا؛ لأن الأهواء كثيرا ما تزيغ بالعقول، فتجعلها تراعي في حكمها مصلحة الجزء الأقـل، وتتغافل عن مصلحة الجزء الأعظم من المجتمع، فتحكم على الفعل بحسن أو قبح حكما غير صادق" [5] ، كما أنها لا تحمل صفات ثابتة ثبوتا ذاتيا، فليس الحكم المضاف إلى متعلقه صفة فيه ثابتة، "فإذا قلنا شرب الخمر محرم، لم يكن التحريم صفة ذاتية للشرب عند الضرورة، فهو كالشرب المحرم عند الاختيار، والمعنى بكونه محرما أنه متعلق النهي، وبكونه واجبا متعلق الأمر، وليس لما يتعلق به قول قائل على جهة صفو حقيقية من ذلك القول" [6] .

              كما أنه في المقـابل "إذا كان الأمـر من الله تعـالى صار وجـود المأمـور به منا واجبا علينـا لله تعالى، ولا يجوز في الحكمة أن يجب علينا إيجاده لله تعالى إلا لحسنه عند الله تعالى على الحقيقة" [7] ، يقول القرافي: "وعندنا الشـرائع الواردة منشئة للجميع، فعلى رأينا لا يثبت حكم قبل الشـرع خـلافا للمعتزلة في قـولـهم: إن كل ما يثبت بعد الشرع فهو ثابت قبله" [8] . [ ص: 65 ]

              وهناك من سموا بالماتريدية، وموقفهم لا يبتعد كثيرا عن المعتزلة، فهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، أي أن الحسن والقبح ذاتيين وعينيين [9] في الأشياء بالنظر العقلي، دون احتكام لضرورة الشرع، غير أنهم مختلفون مع المعتزلة في قضايا الأحكام الفقهية والتكاليف الشرعية، إذ تفتقر إلى النقل وإن تم إثباتها عندهم بالعقل.

              غير أن أقوى الاتجاهات التي فرضت نفسها عبر تاريخ علم الكلام، الاتجاهان [10] الأولان، حيث عظم الخلاف بينهما، ويشمل النـزاع قضايا أصولية خارجة عن مجال علم الكلام.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية