الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              4- التقويم الاستقرائي:

              وهو يرد على كل اعتراض على حدة، يعترف الإمام الشاطبي بقوة الإشكال الأول -الذي تقدم- وخطورته في خرق القاعدة الكلية، لذلك نجده قد أرجأه إلى نهاية الأجوبة والردود، رغم أنه أورده الأول، ليفسح له المجال اللائق به، يقول: "وإنما يشكل من كل ما ورد ما بقي من أحاديث، فإنها كالنص في معارضة القـاعدة المستدل عليـها، وبسببها وقع الخلاف فيما نص فيه خاصة -وذلك الصيام والحج-، وأما النذر فإنما كان صياما فيرجع إلى الصيام" [1] .

              إن الأمر خطير للغاية كما يفهم من قول أبي إسحاق، فالأحاديث المستدل بها في الإشكال يراها كالنص في معـارضة القاعدة المستدل عليها، فما سبيل الجواب، وكيف سيتم تفنيد هذه الدعوى بالشكل الذي يحافظ على كلية القاعدة وصحتها؟ [ ص: 43 ]

              سيتضمن رد الشاطبي على المسألة ستة أمور، يبحث من خلالها في حقيقة هذه الأحاديث المستشهد بها، من حيث روايتها من جهة، ودرايتها وفقهها من جهة ثانية، وسألخص ما جاء في جوابه مركزا على ما يهم مسألتنا، يقول، رحمه الله: "والذي يجاب به فيها أمور [2] :

              الأول: أن الأحاديث فيها مضطربة، نبه البخاري ومسلم على اضطرابها، فانظره في الإكمال [3] ، وهو مما يضعف الاحتجاج بها إذا لم تعارض أصلا قطعيا، فكيف إذا عارضته..؟

              والثاني: أن الناس على أقوال في هذه الأحاديث: منهم من قبل ما صح منها بإطلاق، كأحمد بن حنبل، ومنهم من قال ببعضها، فأجاز ذلك في الحج دون الصيام، وهو مذهب الشافعي، ومنهم من منع بإطلاق كمالك بن أنس. فأنت ترى بعضهم لم يأخذ ببعض الأحاديث وإن صح، وذلك دليل على ضعف الأخذ بها في النظر.

              : أن من العلماء من تأول الأحاديث على وجه يوجب ترك اعتبارها مطلقا.

              والرابع: يحتمل أن تكون هذه الأحاديث خاصة بمن كان له تسبب في تلك الأعمال، كما إذا أمر بأن يحج عنه، أو أوصى بذلك، أو كان له فيه سعي، حتى يكون موافقا لقوله تعالى: ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ) (الطور:21) ، ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) (النجم:39) ، وهو قول بعض العلماء. [ ص: 44 ]

              والخامس: أن قوله: ( صام عنه وليه ) محمول على ما تصح فيه النيابة، وهو الصدقة مجازا؛ لأن القضاء تارة يكون بمثل المقضي، وتارة بما يقوم مقامه عند تعذره، وذلك في الصيام الإطعام، وفي الحج النفقة عمن يحج عنه أو ما أشبه ذلك.

              والسادس: أن هذه الأحاديث، على قلتها، معارضة لأصل ثابت في الشريعة قطعي، ولم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي والمعنوي، فلا يعارض الظن القطع".

              وقبل أن يختم هذا الجواب، يشير الإمام الشاطبي إلى أهمية هذا الوجه السـادس، وقوته في إفحـام الخصم بدعواه، كما أن في ذلك تنبيه لطيف إلى قيمة الاستقراء العلمية في دلالتها القطعية واليقينية، يتابع في رده: "وهذا الوجه -أي السادس- هو نكتة الموضع وهو المقصود فيه، وما سواه من الأجوبة تضعيف لمقتضى التمسك بالأحاديث" [4] .

              إنها لمحة لامعة من الشاطبي إلى موقع منهج الاستقراء، ضمن مناهج النظر الأصولي، وإلى قيمته الاستدلالية، الشيء الذي يسوغ اشتغاله الأصولي المستمر على هذا المنهج.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية