الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - موقف ابن خلدون من المنطق:

              أما ابن خلدون فقد صنف المنطـق ضمن العلوم الآلية المقصـودة لغيرها لا لذاتها، فهو علم مكمل يعتمد عليه في خدمة وإكمال المعرفة بما هو مقصود، وغائي في العلوم والمعارف، وهذا إن استدعت الضرورة استصحابه في البحث والنظر، وكان هذا أهم مؤاخذاته على المشتغلين بعلم المنطق، كفخر الدين الرازي، يقول رحمه الله: "..ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا، ونظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتسع، وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب" [1] .

              وما فتئ ابن خلدون يحذر من المعرفة المنطقية، وخاصة رديفتها الفلسفية، التي تحدث عنها في إحدى الفصول بالتنبيه على خطرها، لذلك وجب التشهير بها حتى يكون المشتغل بها مدركا لوجوه ضررها، بل إن هذه العلوم وخاصة المنطق والفلسـفة لا جدوى من دراستها؛ لأنـها لا تخدم العمران رغم اهتمـام الناس بـها، يقول، رحمه الله: "هذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها" [2] . [ ص: 84 ]

              لم يتوقف تحسيس ابن خلدون بخطورة الفلسفة والمنطق من جانب أثرها على الدين فحسب، بل إن منهجهما العلمي لا يفضي بالضرورة إلى نتائج علمية صادقة ويقينية في كل الأحوال، وبالتالي إمكانات الأخطاء فيها، واحتمالات المغالط بإعمالها واردة بقوة، الأمر الذي يستوجب الانفكاك عنهما، والتخلي عن النظر بهما، يقول: "ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع، وبعدها عن المحسوس، فإنها تنظر في المعقولات الثواني؛ ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام، وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني" [3] .

              إن هذه الانطباعات الصريحة والواضحة تجعلنا نسـلم بتسجيل موقف ابن خلدون السلبي لعلم المنطق، والرافض للتعامل مع المقولات الفلسفية وقوانينها.

              لكن من جانب آخر، نقف على بعض الإشارات تلطف من موقفه المناهض، وتوحي بعدم ممانعته في بعض الاعتبارات، فبعد أن فند كل الادعاءات الفلسفية والآراء العقلية التي يؤسس عليها المناطقة مواقفهم وأفكارهم، لم يتوقف عند مزية تحسب لهم في حصول العلم والمعرفة، إلا ما كان من إشارته إلى ثمرة واحدة حسب تعبيره، وهي فائدة ترتيب الحجج لتحصيل ملكة الصواب والقطع في بعض البراهين، لذلك فهو لا يعارض إعمال بعض آلياتهم، بشرط حصول ثمرتها.

              يقول، رحمه الله: "فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها، وليس له فيما علمنا إلا ثمرة [ ص: 85 ] واحدة، وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين، وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان، هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية" [4] .

              كما أن علم المنطق يتوفر على قوانين ومبادئ في النظر، تنشد الصـواب في تسلسل علمي وإتقان من شأنها سلوك الطريق المناسب والتماس الحقيقة في الاستدلال، وإن لم تكن تفي بالقصد والغاية، "فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين، بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجج والاستدلالات؛ لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم، فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار، هذه ثمرة هذه الصناعة" [5] .

              ورغم ذلك كله، فتبقى للمنطق سماته المتفردة التي لا تليق بملكة الإنسان وجبلته الطبيعية، المائلة إلى ما هو بسيط وفطري، يقول ابن خلدون: "فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها، ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر، ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله" [6] . [ ص: 86 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية