الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              3- التجربة:

              لقد استدل أبو إسحاق بقاعدة التجربة في مناسبات عديدة، باعتبارها خطوة استقرائية، ومسلكا برهانيا في تقرير القواعد والقطع بالكليات، ففي دراسته مسألة كلية القرآن وبيانه لكل شيء، يبحث مستقرئا الدلالة القرآنية والحديثية والأثرية، ثم يستكمل استدلاله بما ثبت بالتجربة عند العلمـاء، الذين ما أن لجؤوا إليه إلا وجدوا ضالتهم، فقال: "ومنها التجربة، وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة، إلا ووجد لها فيه أصلا، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل" [1] . [ ص: 105 ]

              وردا على اعتراض ورد على مسألة "العلم المعتبر شرعا ما بعث على العمل المانع صاحبه من اتباع هواه"، مفاده أن العصمة من المعاصي للأنبياء من جهة، وأنه قد ورد في الشريعة ذم العلماء السوء، فكيف يقال: إن العلم مانع صاحبه من العصيان [2] ، يصحح أبو إسحاق هذا مستندا إلى دليل التجربة قائلا: "فالجواب عن الأول أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفـه، وبدليل التجربة العـادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا" [3] .

              أما ابن خلدون فقد أورد في مقدمته كلاما فيه ما يشبـه تعريفا للتجـربة إذ يقول: "التجربة تحصـل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العـلم أو الظن" [4] ، وهي حسب رأيه من الخطوات التي يتأسس عليها المسلك الاستقرائي.

              إن حضور التجربة في الفكر الخلدوني واضح، خصوصا في المقدمة التي تنبني جل فصولها على النظر في تجارب السابقين، ووقائعهم التاريخية ليستخلص بذلك قوانين وكليات للعمران البشري، "وذلك بملاحظة الجزئيات وإيراد التجارب عليها كلما أمكن ذلك، ثم الارتقاء إلى نتائج عامة في صورة قوانين تضيف جديدا إلى المعرفة العلمية" [5] . [ ص: 106 ]

              وإذا كانت التجربة المتواترة في صفحات التاريخ والمتكررة في صنائع الإنسان، والمعروفة في سنن الكون تنتج حكما علميا، فإنها في شأن الصنائع الإنسانية، والحضارة الكاملة تفيد عقلا، حسب رأيه "فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة، فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا، والحضارة الكاملة تفيد عقلا" [6] .

              وكثيرا مايندرج الفكر التجريبي عند ابن خلدون ضمن مستنداته الاستدلالية على القوانين العلمية، كما هو الشأن في مسألة "في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم" [7] ، يقول عن أهل الأقاليم المعتدلة "..فألوانهم أصفى، وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف، وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات، هذا أمر تشهد له التجربة في كل جيل منهم" [8] . وقال أيضا في فصل خاص بالاحتكار: "ومما اشتهرعند ذوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران" [9] . [ ص: 107 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية