الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              منهج النظر المعرفي بين أصول الفقه والتاريخ (الشاطبي وابن خلدون أنموذجا)

              الدكتور / الحسان شهيد

              - في مفهوم الاستقراء "INDUCTION":

              الاستقراء لغة: من استقرأ يستقرئ استقراء؛ واستقرأه طلب إليه أن يقرأ، واستقرأ الأمور تتبع أقراءها لمعرفة أحوالها وخواصها، واقترى البلاد واستقراها وتقراها تتبعها، يخرج من أرض إلى أرض [1] .

              أما من الوجهة الاصطلاحية، فتتعدد معاني الاستقراء بتعدد مجالات الاختصاص. فعند المناطقة، عرفه أرسطو بأنه: "حكم على الجنس لوجود ذلك الحكم في جميع أنواعه، مثال ذلك الجسـم، إمـا حيوان أو إنسان أو جماد، وكل واحد من هذه الأقسام متحيز فينتج عن ذلك أن كل جسم متحيز" [2] ، فهو "لا يريد بالأمثـلة الجزئية في هذا السياق أفرادا بل يريد أنواعا، بمعـنى [ ص: 31 ] أنك تنظر إلى بقرة واحدة، لا على أنها فرد قائم بذاته، بل على أنها عينة تمثل نوعا بأسره" [3] .

              وقال ابن سينا: "الاستـقراء هو كل كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي، إما كلها وهو الاستقراء التام، وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور" [4] .

              وعرفه الغزالي، في معيار العلم بقوله: "هو أن تتبع الحكم في جزئيات كثيرة، داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكما في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الجزئي به" [5] ، فالاستقراء على هذا المعنى، يعمل على ربط النتائج بالأسباب، وذلك بتحديد القوانين التي تضبط هذه الظواهر وبنياتها الداخلية والمخطط النظري الذي يساعدنا على تمهيدها [6] .

              وعرفه الخوارزمي بقوله: الاستقراء "هو تعرف الشيء الكلي بجميع أشخاصه" [7] . أما الجرجاني، فالاستقراء عنده هو "الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته، وإنما قال في أكثر جزئياته؛ لأن الحكم لو كان في جميع جزئياته لم يكن استـقراء، بل قياسـا مقسـما، ويسمى هكذا؛ لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع جزئياته" [8] . [ ص: 32 ]

              أما الاستقراء في اصطلاح علماء التربية، فله معنيان وإن تقاربا من حيث المضمون، فالأول، هو نمط من الاستدلال، ينتقل بموجبه الفكر من ملاحظة ودراسة حالات جزئية إلى استخلاص حكم كلي يتم تعميمه على باقي الحالات المتشابهة للحالة الملاحظة.

              والثاني، قدرة المتعلم على التدرج من الجزء إلى الكل، ومن المثال إلى القاعدة، ومن الحالات الجزئية إلى الكليات والأفكار العامة، ويشمل القدرة على ربط الحقائق بعضها ببعض للوصول إلى فكرة جديدة أو قانون عام [9] .

              ولا يبتعد مفهوم الاستقراء عند علماء الفقه والأصول عما سبق ذكره من تعريفات، فيعرفه أبو حامد بأنه: "عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات" [10] .

              وعرفه الإمام القرافي بأنه "تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في الصورة النـزاع على تلك الحالة" [11] .

              وقال الرازي: "الاستقراء المظنون هو إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته" [12] .

              أما ابن قدامة، فالاستدلال بالاستقراء عنده "عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على مثلها" [13] . [ ص: 33 ]

              ولعل من أوضح تعاريف الاستقراء ذاك الذي أودعه الإمام الشاطبي في موافقاته بقوله هو: "تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام، إما قطعي وإما ظني، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية، فإذا تم الاستقراء حكم به في كل حكم تقدر" [14] .

              وإلى ذلك أشار ابن عاصم في منظومته الأصولية:


              وهناك الاستقراء خذه رسما تتبع الجزئي حكما حكما     ثم يرى والحكم فيه يطـرد
              بذلك الحكم حيثما يرد [15] .



              أما تعريفات المتأخرين لمصطلح الاستقراء، فلم تتميز عما ذكره سابقوهم من المتقدمين، منها على سبيل المثال تعريف المشاط إذ قال فيه: "تصفح الجزئيات ليحكم بها على أمر يشمل تلك الجزئيات، فهو استدلال بثبوت الحكم للجزئيات على ثبوته للكلي، عكس القياس المنطقي، وهذا هو الاستقراء التام" [16] ، وكذا محمد باقر الصدر الذي وصفه بأنه: "كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي سـاهمت في تكوين ذلك الاستدلال" [17] ، أو هو: "تلك العملية التي بواسطتها يمكننا الانتقال من معرفة الوقائع إلى القوانين التي تخضع لها"

              [18] . [ ص: 34 ]

              أما من المعاصرين فقد حدده قطب مصطفى سانو: "بأنه استدلال بثبوت حـكم في الجزئيات، بناء على ثبوته في الأمر الـكلي لتلك الجزئيات" [19] ، كما عرفه محمد محمد أمزيان بأنه المسلك الذي "يستخدم في إثبات الحقيقة العلمية ويعتمد على الانتقال من الحكم على البعض إلى الكل على سبيل التعميم، وذلك بملاحظة الجزئيات وإيراد التجارب عليها كلما أمكن ذلك، ثم الارتقاء إلى نتائج عامة في صورة قوانين تضيف جديدا إلى المعرفة العلمية" [20] .

              وعليه، فالدليل الاستقرائي نستـدل به على ما نعرفـه حقيقة في حالة أو حالات جزئية ليصبح حقيقة في كل الحالات المشابهة للأولى من خلال بعض العلاقات المسوغة لهذا التشابه [21] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية