الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              2- القياس:

              يحضر القياس بشكل قوي باعتباره أداة يستعان بها في البيان، والاستدلال على المطالب المختصة عند أبي إسحاق، ويظهر ذلك مثلا في استدلاله على الحجية القطعية لدليل الاستقراء في الكشف عن المقاصد الكلية، ليتحصل له [ ص: 102 ] القطع في المسألة بشكل مناسب ومجدي، لذلك انتبه إلى دليل الاستقراء قياسا على المعرفة التواترية في الخبر، فإذا كان التواتر يفيد القطع في الأخبار، فإن الاستقراء اللفظي والمعنوي للنصوص والجزئيات له نفس الإفادة لاتحادهما في نفس علة الإعمال، وهي إنتاج المعرفة القطعية، يقول الشاطبي: "وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق، فخبر واحد مفيد للظن مثلا فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن، وهكذا خبر آخر وآخر، حتى يحصل بالجميع القطع، الذي لا يحتمل النقيض، فكذلك هذا إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار" [1] .

              وقال أيضا: "فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم، فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم بشجاعة علي، رضي الله عنه، ووجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما" [2] .

              وفي نفس السياق ينتقد الأصوليين الذين تهاونوا في الأخذ بدليل الاستقراء، حتى يقطعوا ببعض الأدلة الأصولية كالإجماع مثلا، ولو قاسوا استقراء النصوص الدالة على قطعية المعنى وصحته، على احتجاجهم بالتواتر المعنوي في القطع بالأخبار لحصل لهم القطع في حجية الإجماع، بناء على ذلك التشابه المسلكي، فقال منبها: "وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض [ ص: 103 ] الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجة ظني لا قطعي؛ إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفرادها ما يفيده القطع، فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة ومن بعده" [3] .

              ومن القياس المنطقي الواضح والجلي في الاستعمال ما استهل به إحدى المسائل الكبرى من كتاب "المقاصد"؛ حيث قرر على طريقة المناطقة الكبار المتمرسين قائلا: "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل" [4] .

              وتقسيمها البرهاني بحسب المسالك المنطقية، يكون على الصورة الآتية:

              كل مناقض للشريعة............ عمله باطل........ مقدمة صغرى

              المبتغي في تكاليفها غير مقاصدها...... مناقض للشريعة.... مقدمة كبرى

              المبتغي في تكاليفها غير مقاصدها........ عمله باطل ....... نتيجة.

              والقياس عند ابن خلدون أحد الأدوات الأساسية في النظر التاريخي والاعتبار العمراني، فما دام علو اهتمامه واشتغاله على الاستقراء، فإنه لا ينفك عن استخدام القياس واستثماره أيضا، وهو الذي وجه انتقاده للمؤرخين الأثبات الذين وقعوا في مغالط ومزلات بناء على إغفالهم القياس والاعتبار، يقول: "فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء، وعلقت أفكارهم، ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس" [5] . [ ص: 104 ]

              وإغفال الاستناد إلى القياس من قبل المؤرخين في رواياتهم يوقعهم في المغالط لا محالة؛ "لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعـة العمران والأحـوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق" [6] . كما أن علم التاريخ من حيث خصائصه الخلدونية نظر (فكر عقلي) وتحقيق (بحث عن الحقيقة) وتعليل، بحث عن علل وأسباب تفسر ما يحدث داخل الحياة البشرية (العلة مبدأ يضعه العقل لفهم ما يوجد) [7] وبداية لأجراء القياسات الممكنة والجائزة.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية