الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              منهج النظر المعرفي بين أصول الفقه والتاريخ (الشاطبي وابن خلدون أنموذجا)

              الدكتور / الحسان شهيد

              3- كلية الكلية: (الكلية في النظر /الكلية في العمران):

              المقصود باعتبار الكلية، إحدى كليات النظر المنهجي عند الإمام والعلامة، هو استصحاب المعرفة العامة المقننة والمقعدة في تأصيل العلمين والبحث فيهما، أي دراسة العلم المختص من الخارج لفقه الأسس المتحكمة في مسار الخطاب وموضوعه وتاريخه، لاسترشاد يرومه الطالب في ذلك أو المتلقي. [ ص: 121 ]

              إن الطبيعة العلمية لعلم أصول الفقه وأصول التاريخ المبنية على فكرة التقعيد والتأصيل يفرض على الإمام والعلامة الاشتغال على خطاب كلي يعرب عن تجربة علمية معتمدها البحث والتتبع والاستقراء، وذلك ما نلمسه عندهما من خلال "المقدمة" لدى ابن خلدون و"الموافقات" و"الاعتصام" عند الشاطبي، إذ أن جل المباحث التي طرقوها بالبحث والدراسة استهلوها بذكر كليات عامة.

              يظهر البعد الكلي للمعرفة الأصولية عند أبي إسحاق، من تصريحه الواضح في خطبة الموافقات، حيث قال: "لم أزل أقيد من أو ابده وأضم من شوارده تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية، غير مقتصر على الأفراد الجزئية" [1] .

              وما يثبت أكثر مراعاة هذه الكلية، واهتمامه بها، تمهيده للمباحث الأصولية بالقواعد الكلية، ثم بيان صحتها وقطعيتها بالاستدلال الاستقرائي، وذلك هو اختياره المسلكي في أغلب المباحث، وسنته المطردة في البحث والنظر، وقد أورد في مطلع كل مبحث منها قواعد مصوغة صياغة عامة، تحمل دلالتها الكلية المستهلة بكلمة "كل"؛ لأن كلمة "كل" عام تقتضي عموم الأسماء، وهي الإحاطة على سبيل الانفراد" [2] . وقد استعملها الأصوليون في تقرير القواعد الكلية، للدلالة على شمولها واستغراقها لما لا ينحصر من الأفراد والجزئيات. ومن هذه القواعد: [ ص: 122 ]

              - كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي [3] .

              - كل مسألة مرسومـة في أصـول الفقـه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية.

              - كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف، إن شاء الله [4] .

              - كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي، إذا تكررت في مواضع كثيرة... إلى قوله... لفظها من العموم [5] .

              - كل دليل خاص، أو عام، شهد له معظم الشريعة، فهو الدليل الصحيح، وما سواه فاسد [6] .

              هذه بعض القواعد الكلية، ونظائرها كثيرة، مهد بها أبو إسحاق دراساته مقيما الاستدلال عليها باستقراء النصوص والفروع، وكلها تثبت اشتغاله على التأسيس الكلي للخطاب الأصولي بدل البحث في الجزئيات وفروعها.

              وقد صرح أبو إسحاق غير ما مرة، بضرورة الأخذ بناصية النظر الكلي في الشريعة؛ لأنه الأجدى والأنفع في تنـزيلها على وجه الصحة، بل نجده قد شبه المعترض عن الكليات المتمسك بالجزئيات بالمتبع للمتشابهات المذموم بزيغه، فقال: "وهذا الموضع كثير الفائدة، عظيم النفع، بالنسبة إلى المتمسك [ ص: 123 ] بالكليات إذا عارضتها الجزئيات، وقضايا الأعيان، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة، فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي، فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين؛ لأنه اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات، ولا توفيق إلا بالله" [7] .

              ونفس الملحظ يقرؤه الدارس في كتابات ابن خلدون، الذي مهد لكل فصل من فصول المقدمة بقواعد كبرى ومبادئ عامة في علم العمران على دراسات علمية تعدد من الجزئيات التاريخية، وهي كلها مبادئ يفتقر إليها المؤرخ في كتاباته وتدوينه؛ لأنها ستبعده عن الأخطاء والمزلات، يقول، رحمه الله: "فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل خبر، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلا زيفه واستغنى عنه، وما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك" [8] . [ ص: 124 ]

              ومن هذه الكليات الذي أثبتها في مقدمته، وهي كثيرة، ما يأتي:

              - إن أجيال البدو والحضر طبيعية.

              - إن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر.

              - إن الرئاسة لا تزال في نصابها المخصوص من أهل العصبية.

              - إن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك.

              - ...

              وهكذا كل العناوين الكبرى لفصول المقدمة مبنية على استدلال بياني لكليات تاريخية استخلصها ابن خلدون استقرائيا.

              التالي السابق


              الخدمات العلمية