الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              منهج النظر المعرفي بين أصول الفقه والتاريخ (الشاطبي وابن خلدون أنموذجا)

              الدكتور / الحسان شهيد

              2- كلية الوحدة: (الوفاق في الأصول/ المطابقة في الأخبار):

              إن الوضع العلمي غير المنظبط لقواعد وقوانين عامة توحد الفكر الأصولي والتاريخي، سينتج عنه من دون شك نـزاعا بينا بين المهتمين بهذين العلمين، وسيوسع الخلاف في الأفهام من الجهة الأولى، وتضاربا في نقل الروايات والأخبار من الجهة الثانية، وهذا يتطلب من الإمام الاشتغال على خطاب الوفاق في الأصول، ويستوجب من العلامة البحث في المطابقة في الأخبار.

              أما بالنسبة للشاطبي فإن ما عرفه الدرس الأصولي منذ نشأته التقعيدية الأولى، من جدل وسجال وتناظر بين الأصوليين لدليل بين على تمكن المعرفة الخلافية من البناء العام لأغلب مباحثه، وهيمنة النـزاع على مسائله العلمية، سواء الأصلية أو الفرعية، وكان هذا من أهم الدواعي الحقيقية التي دفعت الإمام الشاطبي إلى تأسيس نظره الأصولي على التحقيق والنقد والاستدلال، بقصد إعادة المعرفة الأصولية إلى أصولها الوفاقية، التي تثبت وحدة الأصول ودلالتها في الشريعة، وتذلل الخلاف والفراق بين الناظرين فيها، وكان ذلك سرا من الأسرار الغريبة في تأليف كتاب "الموافقات" المحمول على رؤية التوفيق بين الأنظار الفقهية والأصولية، وهو القائل عنه في خطبته: "ليكون أيها الخل الصفي والصديق الوفي هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق"، لكن دون أن يحجب ذلك بعض الاختلاف في مدارك العقول، ومرامي الفهوم؛ لأنه لم يؤلفه "ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق، إذ قد صار علما من جملة العلوم، ورسما كسائر الرسوم وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم" [1] . [ ص: 128 ]

              كما تشكل المعرفة الوفاقية إحدى أهم الكليات العلمية، التي تنتظم على أساسها المسائل والمباحث المدروسة عند أبي إسحاق، تحقيقا واستدلالا ونقدا، ويتمثل ذلك في بياناته الواضحة الصريحة على إثبات القول الواحد في الشريعة، ورجوعها إلى أصول متحدة، لكونها كذلك، لا يستقيم إجراؤها والعمل بتكاليفها إلا بوفاق بان محمود، لا بخلاف هادم مذموم.

              ومن ذلك عقده المسألة الثالثة في الطرف الأول من كتاب الاجتهاد، حيث استهلها ممهدا بقاعدة عامة تفرعت عنها مجموعة من المباحث تخدم نفس الغرض، قال فيها: "الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك، ولا يصلح فيها غير ذلك" [2] .

              وقد استثمر أدلة إثباتية عديدة في البيان، منها القرآنية، كقوله تعالى: ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (النساء:19)، وقوله سبحانه: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) (الأنعام:153 )، مشيرا إلى أن الله يبين فيها: "أن طريق الحق واحد، وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها" [3] . وقال في ختام ذكره لعدد من النصوص القرآنية: "والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير، كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد".

              ومنها العقلية، وخاصة دليل برهان الخلف، يقول، رحمه الله: "...فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ- من غير نص قاطع فيه- [ ص: 129 ] فائدة، ولكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجنى ثمرة؛ إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما، استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين، لكن هذا كله باطل بإجماع، فدل على أن الاختلاف لا أصل له في الشريعة" [4] .

              وأما بالنسبة للعلامة ابن خلدون فقد آلمه الوضع الذي آلت إليه أحوال علم التاريخ، كتابة وتدوينا وفهما، وهو الذي طالما ضمن مقدمته ضرورات تقصي الحقائق التاريخية ونشدان المطابقة بين الروايات والواقـع، يقول: "وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار في ذلك أهم من التعديل مقدما عليه، إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة" [5] .

              لأن المطابقة جزء لا يتجزأ من معالم الصدق والصحة في الخبر، بل إن فقه المطابقة بين الحكايات والأحوال أحد الشروط الأساسية الكبرى في الكتابة التاريخية وروايتها، والذهول عنها إغفال للمقاصد، خاصة إذا ارتبط ذلك بباعثي التعصب والجهل، يقول: "والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل، ويدخلها التعصب والتشييع، ويدخلها الأوهام، ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس والتصنع أو لجهل الناقل" [6] .

              وينبه ابن خلدون إلى عظم أمر المطابقة في الأخبار بقوله: "وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة، وهو أحق بها وأهلها، وقد تصادف موضعها وتكون طبقا [ ص: 130 ] على صاحبها، والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار" [7] . لكن التقرب والتصنع والجهل أسباب تخرم قاعدة المطابقة فتغير بذلك الحقائق وتزيف منقولة إلى الأجيال المقبلة، "والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل ولا منافسين في أهلها، وأين مطابقة الحق مع هذه كلها، فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه وتكون غير مطابقة" [8] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية