في نشأة التكامل المعرفي
بين الشاطبي وابن خلدون
إن الدارس لتاريخ علمي أصول الفقه وأصول التاريخ منذ نشأتهما ومسالك تطورهما تستوقفه ثلاثة ملاحظ أساسية:
الأول: أن هذين العلمين كغيرهما من كثير من العلوم الإسلامية، تفتقت بدايتها في نسق عملي وظيفي في مواقع الوجود بعيدا عن التجريد والنظر، أي أنها علوم استصحبت بنيتها مع تفاعلات الإنسان والكون.
الثاني: أن أغلب العلوم الإسلامية ما أن تطور بها الزمن واشتدت بها أحوال الإنسان حتى أنجبت من رحمها علوما رديفة لها وملازمة لصيرورتها التاريخية، كأصول الفقه بالنسبة للفقه وأصول التاريخ بالنسبة للتاريخ، لأجل تصويب أخطائها وتسوية مسارها.
الثالث: أن أغلب العلوم الإسلامية عرفت تراجعا بين الفينة والأخرى، وأبعدتها الغفلة الناشئة عن غلبة الزمن وقهر التطور عن هذه المقاصد والغايات، التي لأجلها أنشأت وحدتها وقامت بنية عمرانها.
ما يهمنا بالتحديد في هذا المقام هو الملحظ الثالث، الذي يثير فضولنا بالتساؤل عن: الدواعي الحقيقة لولادة تلك العلوم الجديدة والعلل المؤثرة في [ ص: 21 ] ذلك، ومنتهى بعدها الإشكالي من حيث التأسيس والتقصيد؟. وما إذا كان لعلل حضورها تفسيرات تنسجم مع حقائقها الأولى ومبادئها الإنشائية؟
تفصح القاعدة السننية في التاريخ البشري عن استحالة إنشاء علم من العلوم وتأسيسه عبثا من دون قصد، بل قدر وجودها على سبيل احتياج أصل الإبداع والابتـداع، ولا بد له من دوافع، كيفما كانت خصـائصها، معرفية أو علمية [1] ، أو من أبعاد من إيجاده وابتكاره.
لذلك، من غير المجدى فصل النبش التاريخي لبعض العلوم الأصولية عن العلوم المنتجة، بالنظر إلى الترابط التاريخي الوثيق، بل الموضوعي الحاكم في هذا التعلق، فلا يمكن مثلا الحديث عن الشروط التاريخية لنشوء علم أصول الفقه دون إرجاع النظر في ذلك إلى بدايات التشكل الموضوعي لعلم الفقه، وهكذا مع علم التاريخ.
إن الظهور المتأخر للعلوم "الأصولية" أو القاعدية الضابطة لمجالاتها العملية المنتجة يؤكد أن هذه العلوم الأولية عرفت انحرافا موضوعيا وصرفا واضحا عن الأبعاد العلمية المرسومة سلفا لها، وإلا ما الغاية من وجودها في صورة قواعد وشكل مبادئ تظهر في غالبيتها إما وضعا لحكم أو تقريرا لمسألة أو تصحيحا لقضية؟
ومن الملاحظ أنه "كلما كانت العلوم أكثر تشعبا، والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم، كانت الحاجة [ ص: 22 ] فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر" [2] ، ومثال ذلك علم أصول الفقه الذي أنشئ على صيغ دالة على هذا القانون، حيث ظهر في تشكيلات قواعده المؤكدة وعباراته الجازمة في البيان والتقرير، وكذا أصول التاريخ المؤسس على مبادئ وقوانين استقرائية.