1- الاستقراء:
الاستقراء كما عرفه أرسطو هو "حكم على الجنس لوجود ذلك الحكم في جميع أنواعه، مثال ذلك الجسم إما حيوان أو إنسان أو جماد، وكل واحد من هذه الأقسام متحيز فينتـج عن ذلك أن كل جسـم متحيز" [1] ، وقال ابن سينا: "الاستقراء هوكل كلي لوجـود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي، إما كلها وهو الاستقراء التام، وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور" [2] ، وعليه فهو يعمل على ربط النتائج بالأسباب، وذلك بتحديد القوانين التي تضبط هذه الظواهر وبنياتها الداخلية والمخطط النظري الذي يساعدنا على تمهيدها [3] . [ ص: 92 ]
والاستقراء بالمعنى الذي استثمره الشاطبي: هو "تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام، إما قطعي وإما ظني، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية، فإذا تم الاستقراء حكم به في كل حكم تقدر" [4] ، وبذلك "يمكننا الانتقال من معرفة الوقائع إلى القـوانين التي تخضع لها"
[5] ، كما نستدل به على ما نعرفه حقيقة في حالة أو حالات جزئية ليصبح حقيقة في كل الحالات المشابهة للأولى من خلال بعض العلاقات المسوغة لهذا التشابه
[6] .
أ- حضور النظر الاستقرائي:
تعتبر قاعدة الاستقراء إحدى الدعائم الكبرى التي قام عليها العمران الأصولي عند الشاطبي، وكذا التاريخي عند ابن خلدون، بحسبانها الأنسب في البحث والأجدى في الوصـول إلى النتائج المرجوة من حيث القطـع والعلمية أو الصدق والصواب.
أما بالنسبة لأبي إسحاق فاعتماده على الاستقراء أوضح من أن يستدل عليه، وهو الذي يذكر غير ما مرة أن دليله على مسائله الاستقراء، كقوله: "والثالث أن الاستقراء دل على أن..."[7] ، "وهذا النظر يعضده الاستقراء [ ص: 93 ] أيضا..." [8] ، "هذا الأصل وجد منه بالاستقراء جمل" [9] ، "أولها الاستقراء..." [10] ، "...منها الاستقراء..." [11] .
إن المتأمل في فلسفة البحث والنظر الأصوليين عند الإمام الشاطبي من خلال كتاباته، سيتضح له بجلاء، أنها قائمة في أساسها على بعد منهجي صرف، يرسم من خلاله المعالم الكبرى لأي معرفة علمية تخص جانب العلوم الشرعية، حتى ليجعل القارئ يقطع بأن الإمام يروم تأسيسا لمنهج جديد، ولطريقة غير مألوفة عند ذوي أهل الاختصاص الأصولي، وهذا ما نلحظه في استثماره للمنهج الاستقرائي، الذي غطى جل أو أغلب المباحث الأصولية من حيث الاستدلال عليها والبيان فيها.
وهذا المنـزع الاستقرائي أكده منذ البداية باعتباره المسلك المعتمد في دراسته النقدية والتحليلية، فقال: "ولما بدأ من مكنون السر ما بدا، ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى، لم أزل أقيد من أو ابده، وأضم من شوارده تفاصيل وجملا، وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا، معتمدا على الاستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما أعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة" [12] . [ ص: 94 ]
أما فيما يخص ابن خلدون فإن طبيعة الاختصاص التاريخي من تواتر الأحداث وكثرتها عبر أزمنة متكررة يستدعي ضرورة استحضار البعد الاستقرائي والتواتري في قراءة الأحداث وتعليلها، والكشف عن أسباب وقوعها، يقول: "ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السؤم فأنشات في التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، وفصلته في الأخبار والاعتبار بابا بابا، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسبابا" [13] .
وليس في إمكان ابن خلدون إدراك تلك العلل والأسباب المؤثرة في العمران البشري إلا بتتبع الأحداث واستقرائها والاعتبار بها بابا بابا، كما أن استخلاصه لتلك الكليات الكبرى والفوائد العامة ومن تم الاستدلال عليها بالجزئيات الواقعية لدليل واضح على اشتغاله الاستقرائي البين.
ب- أسس استثمار الاستقراء:
إذا ثبت حاجة إعمال الدليل الاستقرائي عند الإمام الشـاطبي والعلامة ابن خلدون، فإن إعماله في الدراسة والبيان سوغته أسس علمية.
الأساس الأول: القطعية والصدقية:
إن الاستدلال على القطعي من المسائل لا يمكن أن يكون إلا قطعيا، لإثبات قطعيته وإفادته اليقين، والدليل الظني لا يقوى على الاحتجاج في مثل هذه المسائل، وهذه قاعدة مسلمة عند أهل العلوم العقلية والنقلية، لأهميتها الكبرى في [ ص: 95 ] البيان والإثبات، وهي من المستندات الرئيسة عند الشاطبي في تسويغ العمل بدليل الاستقراء، كما أنه أسس عليها منهجه في تقرير القضايا الشرعية الكبرى.
كذلك نجـده منذ البداية يحاول ربط دليل الاستـقراء بالتواتر المعنوي -كما سبق- لإضفاء شرعية القطع على الاستقراء الناقص بالأساس، معتمدا في ذلك على مبدأ الاستحالة المنطقية المشتركة بين التواتر والاستقراء، كما أشار إلى ذلك يونس صوالحي بقوله: "ومن هنا تظهر قيمة التسوية التي تحدث عنها الشاطبي، إذ أن قطعية المتواتر المعنوي مبنية على أساس منطقي هو استحالة التواطؤ على الكذب في نقل الخبر، وهو ما جعله يلجأ إلى عملية قياسية جعل فيها التواتر المعنوي الحد الأكبر والاستقراء الناقص الحد الأصغر، والاستحالة المنطقية العلة المشتركة، وإفادة الاستقراء الناقص للعلم القطعي النتيجة" [14] .
ومن جهة أخرى يرى الإمام الشاطبي أن منهج الاستدلال على كون الشارع يقصد من تشريعه حفظ القواعد الثلاث (الضرورية، والحاجية، والتحسينية)، ينبغي أن يتسم بإفادة القطع والعلم، لأنه بصدد إثبات أصول شرعية ورودها قطعي في الشريعة، وهذا المراد لم يظفر بحقيقته في أي دليل من الأدلة الشرعية المعروفة بالقطع، ولكنه وجد دليل الاستقراء المفيد للقطع أليقها في هذا الباب وأنسب، يقول: "كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية والحاجية والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند إليه في ذلك، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا، وكونه ظنيا باطل، مع أنه أصل من [ ص: 96 ] أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية" [15] .
إن استقراء النصوص الفرعية بهذا المعني العقلي المنطقي المركب على الأدلة السمعية النقلية، أمر مقبول شرعا؛ لأنه يعين على سلوك الطريق الموصل إلى القطع في الكليات الشرعية، ذلك أن "العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعة كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها، وهذه خواص الكليات العقليات. وأيضا فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود، وهـو أمر وضعي، لا عقلي، فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار، وارتفع الفرق بينهما" [16] .
إن من أهم غايات التتبع والاقتفاء لأثر الأخبار والأحداث عبر التاريخ هو التيقن والتبين من مدى صدق حدوثها في الوجود، وإمكان صحتها في الورود، وهو أحد أهم الأسس التي أقام عليها ابن خلدون نـزوع إعماله إلى منهج الاستقراء؛ لأنه السبيل الوحيد الذي يملكه المؤرخ وعالم التاريخ للوصول إلى الحقائق، كما أنه الأهم في ذلك، وعليه "فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته، وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه" [17] . [ ص: 97 ]
الأساس الثاني: التفرد الدلالي ببرهان الخلف:
يقوم النظر الاستقرائي عند الشاطبي على مبدأ نمط التلازم، كما سماه الغزالي، وهو المعروف ببرهان الخلف [18] عند أهل المنطق، أو ما يسمى بالقياس الاستثنائي، ويقصد به إثبات المراد والمطلوب بنفي وإبطال نقيضه، قال الشيخ زين الدين الشـاوي: "هو الذي يثبت حقيقة المطلوب ببطلان نقيضه، والحق لا يخرج عن الشيء ونقيضه، فإذا بطل النقيض تعين المطلوب" [19] .
وقد وظف الإمام دليل الاستقراء في منهجه النقدي بالاعتماد على هذا المبدأ في أكثر من مناسبة [20] ، فأراد إثبات الاستدلال بمنهج الاستقراء، بمحاولة رد وإبطال الاستدلال بالدليل المنفرد؛ لأنه ظني لا يرقى إلى القطع، الذي تفيده مجموع الأدلة على سبيل الاستقراء.
وهذه القاعدة المنطقية توظف كثيرا في الفلسفة، باعتبارها استدلالا استنباطيا، ولا يقتضي ذلك أي اتفاق على شرط مسبق، ذلك أن الاستحالة التي تنتج عنه بديهية تماما [21] ، "وغالبا ما يستخدم هذه الصورة من البرهان [ ص: 98 ] لدحض دعاوى الخصم" [22] ، وهذا ما قام به الإمام لما راح يبرهن على ثبوت القطع في أصول الفقه، فقال: "إنه لو جاز جعل الظن أصلا في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق فكذلك هنا؛ لأن نسبة أصول الفقه من الشريعة كنسبة أصول الدين" [23] .
وبنفس الطريقة عالج مسألة إثبات كليات الشريعة الخمس، الدين والنفس والعقل والنسل والمال، حيث مهد لاستخـدام منهج استـقراء الأدلة في مجموعها، وتتبعها ليجعل منها دليلا قطعيا قويا صالحا للاحتجاج. وأشار إلى أنه "..لو استندت إلى أصل معين لوجب تعيينه وأن يرجع أهل الإجماع إليه، وليس كذلك؛ لأن كل واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سـائر الأخبار،كذلك لا يتعين هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد.." [24] .
فالاستناد إلى الأدلة في مفرداتها، مسألة لا تهدي إلا إلى حصول علم ظني لا يعتمد في القضايا الشرعية القطعية، كما أنه استدلال مخالف للأصول العقلية والمنطقية أيضا، فيتحتم اللجوء إلى استقراء مجموع تلك الأدلة الظنية لتثبت بتضافرها كلية قطعية.
وعلى الرغم من ملاحظاته على برهان الخلف الذي يعتبره قائما في أساسه على مقدمات قد تكون باطلة، إلا أن حصول العلم بالمطلوب مستفاد من خلال [ ص: 99 ] البناء عليها، وهذه أحد الحدود المرسومة عند الشاطبي في الاعتبار المنهجي لآليات علم المنطق. وقد أقر بهذا الأمر، عقب رده على اعتراض يقدح في مدى حصول العلم للمجتهد مع جهله بالمقدمات التي يبني عليها، فقال: "فلا يقال إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التي يبني عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده، لأنا نقول: بل يحصل له العلم بذلك، لأنه مبني على فرض صحة تلك المقدمات، وبرهان الخلف مبني على مقدمات باطلة في نفس الأمر، تفرض صحيحة فيبنى عليها، فيفيد البناء عليها العلم المطلوب، فمسألتنا كذلك" [25] .
وفي ظل غياب الأدلة الوافية بالقطع في الأخبار والصحة في إمكان حدوثها، لا يليق بابن خلدون غير اعتماد المنهج السليم وهو اعتماد الاستقراء، ولو كان بالإمكان حضور منهج آخر أو دليل مغاير بمقدوره إنجاز المرغوب في الاستدلال لاشتغل عليه ابن خلدون، لكن انعدامه وغيابه في الضرورة استدعى استحضار الاستقراء، وكأن لسان حال منطق ابن خلدون يقول: بلوغ الصدق والصحة في وقوع الأحداث التاريخية وما يتعلق بها إما أن يكون بدليل صادق يقيني صحيح أو بدليل كاذب ظني خاطئ، ولما كان الثاني غير جائز ولا جواز له في الإمكان بقي لزوم الأول، ثم إن الأول إما أن يستند فيه إلى دليل متعين واضـح مشهور لا يأتيه الشك من بين وروده ولا من خلف دلالته، أو إلى دليل يتألف من مجموع أدلة ووقـائع ظنية تفيـد في معناها الكلي جواز الوقوع وتجتمع على اليقين، ولما انعدم الأول تبقى المنهج القويم في الإفادة الراجحة من الطريق الثاني. [ ص: 100 ]
الأساس الثالث: الأنسبية:
إن هذه الأهمية المنهجية التي أوليت لدليل الاستقراء من قبل الإمام الشاطبي، لم تكن من قبيل الاستكمال في النظر، والاستحسان في البحث، بل تحكمها حاجات ملحة وضرورات أساسية في التحقيق الأصولي لعدة مسائل، اعتبرها الإمام من أخطر مسائل الفقه والأصول، هذا فضلا عن كونها مؤسسة على دعائم وأسس شرعية ومنطقية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
قد يجوز القول: إن ما أسس عليه دليل الاستقراء من دعائم علمية كافية في تسويغ إعمال دليل الاستقراء، لكن ذلك لا يكفي في استثماره عند كل مسألة؛ لأن من المسائل ما لا تشفع فيها تمامية الاستقراء، ولا يحرر النـزاع فيها أصل الاستقراء ابتداء، أو قد يستغنى عنه في حضور دليل قطعي آخر ووجوده.. وتبدو أهمية الاستقراء المنهجية الباعثة على استثماره، في غياب الدليل القطعي لتحرير النـزاع في بعض الإشكالات الأصولية. ولنا في المسألة التاسعة من كتاب "المقاصد" خير مثال على ذلك، فهو يوضح المسلك الذي اتبعه الإمام الشاطبي في تسويغ العمل بدليل الاستقراء، باعتباره المنهج الأهم والأسلم في تحقيق المعرفة القطعية.
ولكي يثبت قصد الشارع المحافظة على القواعد الثلاث، الضرورية والحاجية والتحسينية، يحتاج الإمام إلى دليل مناسب يقطع به في المسألة، لأن الأمر له أهميته القصوى، وسيترتب عنه فروع فقهية وأصولية أخرى، لذلك نجده قد أكد منذ البداية ضرورة وجود دليل يستند إليه، فلما بحث في كل [ ص: 101 ] الأدلة، النقلية منها والعقلية، ليلتمس مسلكا في خدمة الموضوع، لم يظفر بذلك فيها، فقرر في نهاية المطاف أن دليل المسألة ثابت بالاستقراء [26] .
وروح الأنسبية نفسها اعتبرها ابن خلدون في اشتغاله على الاستقراء؛ لأن طبيعة العلم المخصوص تتطلب النظر في صفحات التاريخ بأحداثه ووقائعه، واقتفاء جزئياتها، للبحث في صدقها وصحتها لاستخلاص كليات تؤسس لعلم العمران البشري، وهذه العلمية لن يجدها ابن خلدون إلا في منهج الاستقراء، لكونه محور قيمة الأنسبية ومركزها في ذلك، وعلى سبيل التمثيل، يمكن سرد هذا النص الذي يوضح فيه اشتغاله على منهج الاستقراء في فهم بعض الخصوصيات الإنسانية عبر التاريخ البشري، ولا يمكن إدراك ذلك إلا باستقراء حالات كثيرة، من ذلك ما خلص إليه بتتبع أحوال المتعلمين وأثر الشدة عليهم في تشكيل طباعهم، في فصل سماه: "في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم" يقول، رحمه الله: "وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر، ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمره عليه، ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به؛ وتجد ذلك فيهم استقراء" [27] .