- تعليل التباين الاستثماري للمنطق بين الشاطبي وابن خلدون:
لقد تبين سلفا أن بين الشاطبي وابن خلدون اتفاقا مبدئيا حول التحفظ الواعي والاحتياط النبيه في الاشتغال على قواعد علم المنطق، باعتباره علما دخيلا على العلوم المرتبطة بمجال الاختصاص الإسلامي من جهة، ثم لحسبانه مندرجا ضمن العلوم الآلية الإجرائية، الخادمة للعلوم المرامة بالقصد الأصلي، التي تنتج معرفة علمية تسهم في العمران البشري، هذا بالإضافة إلى طبيعته النظرية التجريدية المحضة التي تشحذ الذهن وتفعمه بنظريات وتصورات بالإمكان الاستغناء عنها وتجاوزها إلى ما هو نفعي ومصلحي.
إلا أن هذا التحفظ والاحتراز لا يعدم وجود مساحة ترفع الممانعة في إعمال آليات علم المنطق، وفق الضوابط والشروط المعتبرة، والشاكلة المناسبة التي تليق والمجالات العلمية والمطالب المختصة بالعلوم الإسلامية، دون الامتلاء والاستبحار فيها، ورغم السماح بهذا المدخل المنهجي في التعاطي مع علم المنطق، فإننا نلمس تباينا واضحا في استثماره وإعماله عند الإمام والعلامة، إذ تحدد بقوه وبيان عند الأول، وتمثل خجولا محتشما عند الثاني، فما هي أسباب ذلك التباين؟
تتضافر أسباب عديدة لتفسير هذا الاختلاف حسب اعتقادنا، ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة:
- السبب الأول: سبب موضوعي:
تفصل علم أصول الفقه وعلم أصول التاريخ فروق واسعة في الجانب الموضوعي، من حيث المباحث العلمية والقضايا الكلية التي يختص بها كل علم، [ ص: 111 ] وهذا التباين يستصحب معه من دون شك متحكمات معرفية على مستوى الاستمداد العلمي.
فعلم أصول الفقه الذي اتخد مسارا مخالفا بعد مرحلة "الرسالة" الشافعية، بانفصاله المتدرج عن الجوانب العملية والفروعية، حتى أصبح علما مجردا يغلب عليه طابع التنظير، سيستعين فيه أهل اختصاصه بأدوات علمية ومنهجية أخرى، تعينهم في البيان والدراسة، كعلم الكلام وعلم المنطق وغيرهما.
أما علم أصول التاريخ العمراني فهو غير مطالب بالضرورة بالاستدعاء الكلي لآليات ومناهج علمية أخرى، حتى يكتمل دوره في البيان والتأسيس، لأن مجال دراساته معرفة وجودية مركزها الأحداث الواقعية، والوقائع التاريخية التي مرت عبر الزمن.
وهذا التمايز المعرفي بين العلمين قد نبه إليه ابن خلدون نفسه حينما تحدث عن طبائع العلماء وبعدهم عن السياسة، فقال: "..وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر، أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة، وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك، كالأحكام الشرعية، فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها" [1] . وحال هؤلاء العلماء مختلف تماما عن أهل العمران نظرا لاختلاف مجال اختصاصهم، "ويلحق بهم أهل الذكاء [ ص: 112 ] والكيس من أهل العمران؛ لأنهم ينـزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط" [2] .
- السبب الثاني: سبب منهجي:
تتباين طبيعة المعالجة الدراسية العلمية بحسب الاختلاف الحاصل بين الخصائص الموضوعية التي تمت الإشارة إليها؛ لأن كلا منهما يحتاج إلى أدوات وآليات متفردة في النظر والتحليل، وكل ذلك مرتبط أساسا بتاريخ كل علم والمؤثرات الزمنية التي فعلت في عمرانه وبنائه.
فعلم أصول الفقه، الذي كانت نشأته التأسيسية في رحم الفقه وخاصة مع الشافعي، ظهر عليه ذلك التأثر الواضح بالاختلافات الفقهية والاجتهادات المرتبطة بها، مما استوجب على أهله الاستعانة بمناهج علمية أخرى للبت في القضايا الأصولية وطلب القطع واليقين فيها، خصوصا الأدوات المنطقية.
ولعل المطلع على "الموافقات" مثلا يشم رائحة النظر المنطقي فائحة منذ العبارات الأولى، حين استهل كتابه بقـوله: "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي" [3] ، ويظهر أنه لجأ إلى الأسلوب المنطقي في بيان ذلك، معتمدا على ما يسمى بالقياس المنطقي المكون من مقدمة صغرى وأخرى كبرى ثم النتيجة، على هذا الشكل: [ ص: 113 ]
- كل ما رجع إلى كليات الشريعة فهو قطعي لا ظني: مقدمة صغرى.
- أصول الفقه راجعة إلى كليات الشريعة: مقدمة كبرى.
- أصول الفقه قطعية لا ظنية: نتيجة.
ناهيك عن المباحث الأخرى التي لا تخلو من أساليب منطقية في الدراسة والنقد والتقويم، إضافة إلى آلية القياس، وكذا الاستقراء الذي يمثل العمود الفقري لمنهج النظر عند الشاطبي.
أما بالنسبة لعلم أصول العمران الذي لا نعرف له بداية تأسيسية حقيقية إلا مع العلامة ابن خلدون بمقتضياته المنهجية لا يتطلب بالضرورة إعمالا مسهبا للمنهج المنطقي وآلياته في البحث والنظر، لطبيعته التقعيدية غير المسبوقة بإنتاجات في مجالها تروم مراجعة نظرياتها وتقويمها وفق منهج نقدي يعتمد الأساليب العقلية المجردة في ذلك، ثم إن النقد عند ابن خلدون وجهت سهامه لنقولات الروايات والأخبار في أصولها، ولم توجه إلى ما يشكل المنطق وآلياته اعتبارا محوريا في دراستها؛ لأن ذلك في حكم المعدوم أصلا في الدراسات التاريخية والعمرانية.
- السبب الثالث: سبب غائي:
إن طبيعة قيمة القطع العلمي واليقين التي كانت ديدن الأصوليين في كتاباتهم على مدار تاريخ علم الأصول، ستملي عليهم لا محالة البحث في أشكال إجرائية عقلية محضة لاستيرادها، وخصوصا في حالة الافتقار إلى الأصول المتعينة الوافية بذلك؛ أو في حالة الصور التجريدية الإقناعية في التقويم والتصحيح، وهو المنهج الذي حكم أسلوب وشاكلة الدرس الأصولي عند أبي إسحاق، نقدا [ ص: 114 ] وتقويما، طلبا للقطع والعلم ودرءا للظن المرجوح، والشك المغلوب في الأصول، لذلك طالما أكد الشاطبي ذلك بقوله: "كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث: الضرورية والحاجية والتحسينية، لا بد عليه من دليل يستند إليه في ذلك، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا، وكونه ظنيا باطل، مع أنه أصل من أصول الشريعة، بل هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تبين في موضعه، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية" [4] .
وفي الجهة الأخرى من علم أصول التاريخ العمراني فإن خصوصية الصدق والصحة اعتبرت مقصدا جوهريا لدى ابن خلدون على ابتداء الكتابة في هذا العلم، أخذت منه استحضار أساليب علمية أخرى وقضايا اجتماعية تسعفه في ذلك، كالمقارنة والبحث والتعليل للأحداث، والاسترجاع التاريخي، والجرح والتعديل، والذكاء العلمي، والربط التاريخي، دون التعمق الحاد في التوظيف المنطقي المشحون بالمقدمات الضرورية والنتائج السببية والبراهين المجردة؛ لأن البحث يهم قضايا محسوسة، ووقائع محددة حدثت في الواقع أصلا.
وقد وضح ابن خلدون نفسه هذا التنافر شبه الكلي بين علم المنطق في الاشتغال على أدواته وبين علم العمران بقوله: "ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور، فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم" [5] . [ ص: 115 ]
- ويمكن القول في خاتمة هذا المبحث: إنه على الرغم من الموقف الرافض والصريـح، الذي أبداه كل من الإمـام والعلامة من علـم المنطق وآلياتـه، فإنهما استطاعا تكييفه شرعيا مع علوم الملة، والإفادة من مسالكه في النظر، بحسب المبادئ الأصولية المعتبرة واستثمار فوائده في الاستدلال على مطالبهم العلمية، وكل ذلك بنفس معرفي وفق التقصيد الشرعي النافع.
لا شك أن الموقف المبدئي النازع إلى التحفظ والتحرز من علم المنطق لا يعني بالضرورة عدم إعمال قواعده، ونفي الاشتغال على آلياته، كما بدا مع الشاطبي وابن خلدون، بل إن ما يتحفظا عليه مطلقا هو تعلم المنطق ودراسته باعتباره علما مرادا، والتقصيد المبالغ في طلبه، أما دراسته بالقدر المفيد والنافع حتى يستجيب ذلك لخدمة علوم الملة المطلوبة بالقصد الأصلي، فتلك مسألة لا يمانع فيها الرجلان.
إن الغاية النافعة المقصودة في الخطاب الشرعي تبدع إمكانية اختيار الوسائل الكفيلة لوصولها، وتحدد الآليات المعتبرة في بلوغها، لذلك اعتبر علم المنطق إحدى الأدوات الوافية بالغرض، كلما تم استخلاص المناسب فيها، والخدوم في صحيح الاستدلال والنظر، الشيء الذي أضفى طبيعة خاصة على علم المنطق المكيف مع البيئة العلمية الإسلامية عند الإمام والعلامة.
وقد انتهى الفصل في مطالبه إلى نتيجة علمية مفادها: أن الشاطبي كان أكثر استثمارا وأقوى توظيفا لعلم المنطق في علم أصول الشريعة بشكل واضح، من معاصره ابن خلدون في علم أصول التاريخ العمراني، وذلك مرده إلى أسباب ثلاثة، أولها موضوعي ويتمثل في اختلاف طبيعة العلمين، والثاني منهجي ويعود إلى تباين المسالك المعتمدة في دراستهما، والثالث غائي ويتشخص في تمايز الغاية من دراسة كل علم منهما. [ ص: 116 ]