الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا يجوز أن يقاتل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام إلا أن يدعوه ) لقوله عليه الصلاة والسلام في وصية أمراء الأجناد { فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله } ولأنهم بالدعوة يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي الذراري فلعلهم يجيبون فنكفى مؤنة القتال ، ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ، ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار فصار كقتل النسوان والصبيان ( ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة ) مبالغة في الإنذار ، ولا يجب ذلك لأنه صح { أن النبي عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق وهم غارون } . { وعهد إلى أسامة رضي الله عنه أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق } والغارة لا تكون بدعوة . [ ص: 447 ] قال ( فإن أبوا ذلك استعانوا بالله عليهم وحاربوهم ) لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سليمان بن بريدة { فإن أبوا ذلك فادعهم إلى إعطاء الجزية ، إلى أن قال : فإن أبوها فاستعن بالله عليهم وقاتلهم } ولأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان به في كل الأمور .

قال ( ونصبوا عليهم المجانيق ) كما نصب رسول الله عليه الصلاة والسلام على الطائف ( وحرقوهم ) لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة .

قال ( وأرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم ) لأن في جميع ذلك إلحاق الكبت والغيظ بهم وكسرة شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا ، ( ولا بأس برميهم ، وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر ) لأن في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام ، وقتل الأسير والتاجر ضرر خاص ، [ ص: 448 ] ولأنه قلما يخلو حصن عن مسلم ، فلو امتنع باعتباره لانسد بابه ( وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم ) لما بيناه ( ويقصدون بالرمي الكفار ) لأنه إن تعذر التمييز فعلا فلقد أمكن قصدا ، والطاعة بحسب الطاقة ، وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة لأن الجهاد فرض والغرامات لا تقرن بالفروض . [ ص: 449 ] بخلاف حالة المخمصة لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه .

أما الجهاد فمبني على إتلاف النفس فيمتنع حذار الضمان

التالي السابق


( قوله فإن أبوا ذلك استعانوا عليهم بالله تعالى وحاربوهم لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة { فإن أبوا ذلك فاستعن بالله عليهم وقاتلهم } ) وتقدم الحديث بطوله والكلام عليه . والمدمر المهلك ( فيستعان بالله في كل الأمور ، ونصبوا عليهم المجانيق كما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف ) على ما في الترمذي مفصلا فإنه قال : قال قتيبة : حدثنا وكيع عن رجل عن ثور بن يزيد { أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على الطائف ، قلت : لوكيع : من هذا الرجل ؟ فقال : صاحبكم عمر بن هارون } .

ورواه أبو داود في المراسيل عن مكحول مرسلا ، وكذا رواه ابن سعد في الطبقات ، وزاد أربعين يوما . وذكره الواقدي في المغازي ، وذكر أن الذي أشار به سلمان الفارسي وحرقهم لأنه عليه الصلاة والسلام { أحرق البويرة } على ما روى الستة في كتبهم عن ابن عمر قال : { حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطعه وهي البويرة } : يعني أن البويرة اسم لنخل بني النضير ، ولها يقول حسان بن ثابت

وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير

ولأن المقصود كبت أعداء الله وكسر شوكتهم وبذلك يحصل ذلك فيفعلون ما يمكنهم من التحريق وقطع الأشجار وإفساد الزرع ، هذا إذا لم يغلب على الظن أنهم مأخوذون بغير ذلك ، فإن كان الظاهر أنهم مغلوبون وأن الفتح باد كره ذلك لأنه إفساد في غير محل الحاجة وما أبيح إلا لها ( قوله ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر ) بل ولو تترسوا بأسارى المسلمين وصبيانهم سواء علم أنهم إن كفوا عن رميهم انهزم المسلمون أو لم يعلموا ذلك إلا أنه لا يقصد برميهم إلا الكفار .

فإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية ولا كفارة ، وعند الأئمة الثلاثة لا يجوز [ ص: 448 ] رميهم في صورة التترس إلا إذا كان في الكف عن رميهم في هذه الحالة انهزام المسلمين ، وهو قول الحسن بن زياد ، فإن رموا وأصيب أحد من المسلمين فعند الحسن بن زياد فيه الدية والكفارة ، وعند الشافعي فيه الكفارة قولا واحدا ، وفي الدية قولان . وقال أبو إسحاق : إن قصده بعينه لزمه الدية علمه مسلما أو لم يعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام { ليس في الإسلام دم مفرج } وإن لم يقصده بعينه بل رمى إلى الصف فأصيب فلا دية عليه . وأما الأول فلأن الإقدام على قتل المسلم حرام ، وترك قتل الكافر جائز ; ألا ترى أن للإمام أن لا يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين فكان تركه لعدم قتل المسلم أولى ، ولأن مفسدة قتل المسلم فوق مصلحة قتل الكافر .

وجه الإطلاق أمران [ ص: 449 ] الأول أنا أمرنا بقتالهم مطلقا ، ولو اعتبر هذا المعنى انسد بابه ، لأن حصنا ما أو مدينة قلما تخلو عن أسر مسلم فلزم من افتراض القتال مع الواقع من عدم خلو مدينة أو حصن عادة إهدار اعتبار وجوده فيه ، وصار كرميهم مع العلم بوجود أولادهم ونسائهم فإنه يجوز إجماعا مع العلم بوجود من لا يحل قتله فيهم واحتمال قتله وهو الجامع ، غير أن الواجب أن لا يقصد بالرمي إلا الكافر لأن قصد المسلم بالقتل حرام ، بخلاف ما إذا لم يفترض وهو ما إذا فتحت البلدة . قال محمد : إذا فتح الإمام بلدة ومعلوم أن فيها مسلما أو ذميا لا يحل قتل أحد منهم لاحتمال كونه ذلك المسلم أو الذمي ، إلا أنه قال : ولو أخرج واحدا من عرض الناس حل إذن قتل الباقي لجواز كون المخرج هو ذاك فصار في كون المسلم في الباقين شك ، بخلاف الحالة الأولى فإن كون المسلم أو الذمي فيهم معلوم بالفرض فوقع الفرق الثاني أن فيه دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام بإثبات الضرر الخاص وهو واجب ، ثم إن المصنف أحال وجه مسألة التترس على وجهي مسألة ما إذا كان فيهم أسير مسلم حينئذ أو تاجر .

وقد يقال إن سلم أنه لا يخلو أهل حصن عن تاجر أو أسير ، فإطلاق افتراض القتال إهدار لاعتباره مانعا فلا نسلم أنه لا يخلو أهل حصن أن يتترسوا بالمسلمين ليكون إطلاق الافتراض إهدارا لحرمة الرمي ، فإن المشاهدة نفته فوجب أن يتقيد بما إذا لم يكن طريقا إلى قتل المسلم غالبا . وأما قوله إنه دفع الضرر العام بإلحاق الضرر الخاص فقد يقال إن ذلك عند العلم بانهزام المسلمين لو لم يرم وحل الرمي عند ذلك لم يتقيد به . واعلم أن المراد أن كل قتال مع الكفار هو دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الإسلام : أي مجتمعهم ، وإن لم يحصل فيه الظفر تضرر المسلمون كلهم وهو محل تأمل ، وبتقديره هو ضرر خفيف أشد منه قتل المسلم في غالب الظن ، وإنما يكون الضرر العام مقدما على هذا إذا كان فيه هزيمتهم ونحوها . فإن قيل : فلم لم يغرم الدية إذا أصيب مسلم مع قوله عليه الصلاة والسلام { ليس في الإسلام دم مفرج } أي مهدر .

أجيب بأنه عام مخصوص بالبغاة وقطاع الطريق وغيرهم فجاز تخصيصه بالمعنى ، وهو ما ذكر من قوله لأن الفروض لا تقرن بالغرامات كما ذكرنا فيما لو مات من عزره القاضي أو حده أنه لا دية فيه لأن القضاء بذلك فرض عليه فلا يتقيد بشرط السلامة وإلا امتنع عن الإقامة ( بخلاف ) المضطر ( حالة المخمصة لأنه لا يمتنع ) عن الأكل ( مخافة الضمان ) لأن في الامتناع هلاك نفسه والضمان أخف عليه من هلاكها فلا تمتنع ( أما الجهاد فمبني على إتلاف نفسه فيمتنع حذاره ) واعلم أن المذهب عندنا في المضطر أنه لا يجب عليه أكل مال الغير مع الضمان [ ص: 450 ] فلم يكن فرضا ، فهو كالمباح يتقيد بشرط السلامة كالمرور في الطريق فلا حاجة إلى الفرق بينه وبين افتراض الجهاد في نفي الضمان




الخدمات العلمية