الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت على صاحبها ) لبقائها على ملكه ( وإن كانت مستهلكة لم يضمن ) وهذا الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك ، وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة وهو المشهور . وروى الحسن عنه أنه يضمن بالاستهلاك . وقال الشافعي : يضمن فيهما لأنهما حقان قد اختلف سبباهما فلا يمتنعان فالقطع حق الشرع وسببه ترك الانتهاء عما نهى عنه . والضمان حق العبد وسببه أخذ المال فصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم أو شرب خمر مملوكة لذمي . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 414 ] { لا غرم على السارق بعدما قطعت يمينه } ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بأداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ ، فتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع للشبهة وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي ، ولأن المحل لا يبقى معصوما حقا للعبد ، إذ لو بقي لكان مباحا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرما حقا للشرع كالميتة ولا ضمان فيه [ ص: 415 ] إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حقه ، وكذا الشبهة تعتبر فيما هو السبب دون غيره .

ووجه المشهور أن الاستهلاك إتمام المقصود فتعتبر الشبهة فيه ، وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان لأنه من ضرورات سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة .

التالي السابق


( قوله وإذا قطع السارق والعين قائمة في يده ردت على صاحبها لبقائها على ملكه ، وإن كانت مستهلكة لم يضمن ، وهذا الإطلاق يشمل الهلاك والاستهلاك ) لأنه لما لم يضمن بالاستهلاك وله فيه جناية ثانية فلأن لا يضمن بالهلاك ولا جناية أخرى له فيه أولى ( وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة وهو المشهور ) وبه قال سفيان الثوري وعطاء والشعبي ومكحول وابن شبرمة وابن سيرين ( وروى الحسن عنه أنه يضمن في الاستهلاك . وقال الشافعي : يضمن فيهما ) أي في الهلاك والاستهلاك ، وهو قول أحمد والحسن والنخعي والليث والبتي وإسحاق وحماد . وقال مالك : إن كان السارق موسرا ضمن . وإن كان معسرا لا ضمان عليه نظرا للجانبين ، ولا خلاف إن كان باقيا أنه يرد على المالك وكذا لو باعه أو وهبه يؤخذ من المشتري والموهوب له وهذا كله بعد القطع .

ولو قال المالك قبله أنا أضمنه لم يقطع عندنا ، فإنه يتضمن رجوعه عن دعوى السرقة إلى دعوى المال . وجه قولهم عموم قوله تعالى { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } و { على اليد ما أخذت حتى ترد } ولأنه أتلف مالا مملوكا عدوانا فيضمنه قياسا على الغصب ، والمانع إنما هو منافاة بين حقي القطع والضمان ، ولا منافاة لأنهما حقان بسببين مختلفين : أحدهما حق الله وهو النهي عن هذه الجناية الخاصة ، والآخر حق الضرر فيقطع حقا لله ويضمن حقا للعبد ( وصار كاستهلاك صيد مملوك في الحرم ) يجب الجزاء حقا لله تعالى ويضمنه حقا للعبد ( وكشرب خمر الذمي ) على قولكم فإنكم تحدونه حقا لله وتغرمونه قيمتها حقا للذمي فهذا إلزامي فإنهم لا يضمنونه الخمر باستهلاكها ( ولنا قوله صلى الله عليه وسلم ) فيما روى النسائي عن حسان بن عبد الله عن المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال : سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 414 ] أنه قال { لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد } ولفظ الدارقطني { لا غرم على السارق بعد قطع يمينه } وضعف بأن المسور بن إبراهيم لم يلق عبد الرحمن بن عوف وهو جده ، فإنه مسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن إبراهيم مجهول ، وفيه انقطاع آخر ، فإن إسحاق بن الفرات رواه عن المفضل فأدخل بين يونس بن يزيد وسعد بن إبراهيم الزهري ، وقال ابن المنذر : سعد بن إبراهيم هذا مجهول ، وقيل إنه الزهري قاضي المدينة وهو أحد الثقات الأثبات .

وعندنا الإرسال غير قادح بعد ثقة الراوي وأمانته ، وذلك الساقط إن كان قد ظهر أنه الزهري فقد عرف وبطل القدح به . وما قال ابن قدامة إنه يحمل على غرم السارق أجرة القاطع مدفوع برواية البزار : { لا يضمن السارق سرقته بعد إقامة الحد } ولم يزد على قول المسور بن إبراهيم لم يلق عبد الرحمن ( ولأن وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بعد أداء الضمان مستندا إلى وقت الأخذ فيتبين أنه أخذ ملكه ) ولا قطع في ملكه لكن القطع ثابت قطعا ( فما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي ) والمؤدي إليه الضمان فينتفي الضمان ( ولأن المسروق لا يبقى مع القطع معصوما حقا للعبد ، إذ لو بقي كان مباحا في نفسه ) وإنما حرم لمصلحة العبد فكان حراما من وجه دون وجه فكان شبهة في السرقة ، إذ الشبهة ليست إلا كون الحرمة ثابتة من وجه دون وجه فيندرئ الحد ، لكن الحد وهو القطع ثابت إجماعا ( فكان محرما حقا للشرع ) فقط ( كالميتة ولا ضمان فيما هو خالص حق الله ) ولا يقال جاز كون الشيء محرما لغيره ونفسه كالزنا في نهار رمضان فلا يلزم أن يكون مباحا في نفسه .

لأنا نقول : ما فرض فيه الكلام وهو المال المسروق لا يكون قط محرما إلا لغيره . ووقت استخلاصه الحرمة لنفسه تعالى قبيل فعل السرقة القبلية التي علم تعالى أنها تتصل بها السرقة ، وإنما يتبين لنا ذلك بتحقق القطع ، فإذا قطع علمنا أنه استخلص الحرمة حقا له تعالى في ذلك المال ، كما نعلم أن الأب ملكه الله تعالى جارية ابنه من غير تمليك من الابن له بظهور دعواه ولدها لأنا علمنا أنه شرع ثبوت النسب منه بدعواه فعلمنا حكمه تعالى بنقل الملك فيها إليه قبل الوطء القبلية التي علم [ ص: 415 ] تعالى اتصال الوطء بها ، وكذا في أعتق عبدك عني بألف فهو من الاستدلال بمعاينة المشروط على سبق الشرط . فإن قلت : فما وجه رواية الحسن في الضمان بالاستهلاك مع فرض أن العصمة انتقلت إلى الله تعالى وصار المسروق كحرمة الميتة فينبغي أن لا يفترق الحال ؟ فأجاب المصنف عنه بقوله ( إلا أن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير السرقة ، ولا ضرورة في حق فعل آخر ) إنما الضرورة في نفي شبهة الإباحة عن فعل السرقة ضرورة وجوب القطع ( وكذا الشبهة ) أي شبهة الإباحة إنما ( تعتبر فيما هو السبب ) وهو السرقة ( دون غيره ) وهو الاستهلاك ( ووجه المشهور أن الاستهلاك ) وإن كان فعلا آخر إلا أنه ( إتمام المقصود ) بالسرقة وهو الانتفاع بالمسروق فكان معدودا منها ( فتعتبر الشبهة فيه ) كما اعتبرت في السرقة ( وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان ) في فصل الاستهلاك ( لانتفاء المماثلة ) بين المال المسروق والضمان ، لأن المسروق معصوم حقا للعبد في حالة الاستهلاك فقط ، والضمان مال معصوم حقا له في حالتي الهلاك والاستهلاك ، فإذا انتفت المماثلة انتفى الضمان ، لأن ضمان العدوان مشروط بالمماثلة بالنص ، بخلاف شرب خمر الذمي لأنه أتلف مالا متقوما لغيره فيضمنه ، وفيه جناية على عقله ، وجعل الله تعالى فيه الحد فيحد بذلك فكانا حرمتين ، ومثله صيد الحرم المملوك .

وفي المبسوط : روى هشام عن محمد أنه إنما يسقط الضمان عن السارق قضاء لتعذر الحكم بالمماثلة ، فأما ديانة فيفتى بالضمان [ ص: 416 ] للحوق الخسران والنقصان للمالك من جهة السارق . وفي الإيضاح . قال أبو حنيفة : لا يحل للسارق الانتفاع به بوجه من الوجوه ، لأن الثوب على ملك المسروق منه ، وكذا لو خاطه قميصا لا يحل له الانتفاع به لأنه ملكه بوجه محظور وقد تعذر إيجاب القضاء به فلا يحل له الانتفاع ، كمن دخل دار الحرب بأمان وأخذ شيئا من أموالهم لم يلزمه الرد قضاء ويلزمه ديانة ، وكالباغي إذا أتلف مال العادل ثم تاب لم يحكم عليه بالضمان ، وتعذر إيجاب الضمان بعارض ظهر أثره في حق الحكم ، وأما ديانة فيعتبر قضية السبب




الخدمات العلمية